الجمعة، 25 ديسمبر 2009

الجدار الفولاذي

يبدو أن هناك حمى أصابت النظام المصري يمكن تسميتها بحمى بناء الجدر ،على اختلاف أنواعها ، فبعد أن ساهم نظام الرئيس مبارك في بناء الجدار العازل الذي أقامه الصهاينة لحماية مناطق الوجود الصهيوني في الضفة الغربية ، وذلك بتقديمه للحديد والأسمنت المصري بأسعار لا تقبل المنافسة ، ها هو ذا يتطوع مأجورا ببناء الجدار الفولاذي على الحدود المصرية مع قطاع غزة ، مما يؤكد أن النظام المصري يسعى إلى تبني سياسة بناء الجدر حتى تصبح لمصر شهرة عالمية فيها ، مما يفتح مجالا أرحب لدعم الاقتصاد الوطني ، ولا إشارة هنا للإملاءات الصهيوأمريكية ، ولا إلى تنفيذ أجندة تهدف إلى خنق حماس والقضاء عليها ، فكما صرح الرئيس المصري مرارا وتكرارا بأن مصر تقف على الحياد ولا تساند طرفا على حساب الآخر لإيمانها العميق أن السلام الذي تؤمن به القيادة المصرية كخيار استراتيجي يمكن أن يقوم على العدل كما يمكن أن يقوم من النوم متأخرا ، واللطيف في الأمر أن القيادة المصرية الرشيدة ارتأت أن يبدأ العمل في الجدار الفولاذي تحت جنح الظلام وفي سرية تامة ، حتى يفاجأ الناس في رفح ذات يوم بوجود الجدار ، فيثوبوا إلى رشدهم ويعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وللأسف ولأننا في بلد تحب الكلام فيما لا يعنيها ، تناثرت الأخبار هنا وهناك عن إقامة الجدار الذي سينهي مأساة الأنفاق التي شكلت صداعا مزمنا للصهاينة والنظام المصري في آن ، مما جعل وجهات النظر بينهما تصل إلى حد التطابق – وهذا لا يحدث غالبا – في ضرورة إقامة هذا الجدار على وجه السرعة وذلك بعد تراجع الكيان الصهيوني عن شق قناة مائية بمحاذاة محور صلاح الدين ، بعدما أثبتت الدراسات والأبحاث خطورة شق هذه القناة على التربة والمياه الجوفية تحتها ، ولعل الكيان الصهيوني الذي لم يتورع عن استخدام الأسلحة المحرمة دوليا في حرب غزة الأخيرة رغم ما تتركه من آثار مدمرة على الإنسان والبيئة ،قد أصغى أخيرا إلى صوت العقل المصري ، فآثر الرضوخ للمطلب المصري باستبدال الجدار بالقناة ، ولكن يبدو أن النظام المصري قد فاته أن الأنفاق لم توجد إلا بسبب غلق المعابر ، وأن التهريب الذي يغطي ثلثي احتياجات سكان القطاع ،لم يكن إلا وسيلة لمواجهة تعنت الجانب المصري ، والطريف أيضا أن تسريب الأخبار الأولى عن بناء الجدار تمت عبر الصحف الصهيونية ، التي دأبت على إحراج نظام الرئيس مبارك رغم ما يقدمه للكيان الصهيوني من خدمات جليلة ، ولأن الأمور تتعلق بحياة قرابة المليوني نسمة ، فإن أمر الجدار الذي يسعى كلا الطرفان لجعله أمرا واقعا ،لن يقابل بالاستسلام الكامل من قبل المتضررين ، ولذلك فقد قامت الجماعات المسلحة في القطاع بقصف معدات الحفر ، كما قامت حركة حماس بمظاهرات قرب الحدود المصرية ، مما جعل النظام المصري يقف على أهبة الاستعداد ؛ تحسبا لاجتياح غزاوي جديد للأراضي المصرية ، وما كان للميديا الحكومية المصرية أن تغيب عن الحفل ، فما هي إلا دقائق ،وقد صدرت الأوامر لجوقة الكتبة ، بالتغني بالحكمة المصرية التي رأت تشييد الجدار الذي أصبح – بقدرة قادر – حصن الأمان المتين ضد تنفيذ المخططات الرامية إلى توطين الفلسطينيين في سيناء ، ناهيك عن دوره الأخلاقي الرائد في إيقاف تجارة المخدرات والرقيق الأبيض بين مصر والقطاع ، وكذلك إيقاف هذا الاستغلال البشع الذي يقوم به المتحكمون في الأنفاق لشعب غزة المسكين المغلوب على أمره ، مع الإشارة إلى تنبيه الغافل إلى أن حماس لا تسيطر فعليا إلا على 10% فقط من الأنفاق ، أما بقية الأنفاق فتستخدم في تجارة محرمة تستغل الناس وتفسدهم ، وتغضب الله العلي القدير على مصر المؤمنة ، إن الجدار الفولاذي لن يعزل غزة عن مناصريها ولن يمنع وصول الإمدادات إليها ، لأن الطرق في هذا السبيل لم تنعدم بعد ، لكن هذا الجدار بالتأكيد سيدعم عزل مصر عن محيطاها العربي ، وسيزيد الهوة السحيقة بين مصر التي كانت ومصر التي هانت ، فأي نظام هذا الذي يحرص على قطع وشائج الصلة مع أشقاء مصر غربا وشرقا ، وهو يتغنى بتاريخ ناصع لمصر العربية لا دخل له فيه ولم يشارك في صنعه بأقل القليل ، ثم هو يذكي نيران الشعوبية ويدعم دعاوى الانكفاء على الذات وقطع أواصر الإخوة ، وكل ذلك من أجل أمر واحد يسعى إلى تحقيقه ، وهو يدرك أنه بات بعيد المنال .

الاثنين، 30 نوفمبر 2009

اقتطاع الجزائر

لم تكن تلك الأسلحة البيضاء التي حملها مناصرو المنتخب الجزائري في أم درمان لإرهاب الجماهير المصرية فحسب ، بل كان عملها الأساسي هو اقتطاع الجزائر من جسد الوطن العربي وعزلها عن محيطها العربي ، تمهيدًا لاستلابها لحساب الفرانكفونية ودعاة الفَرْنَسَة ، وقد قدم النظام المصري وأبواقه الإعلامية المقروءة والمرئية خدمة جليلة لأعداء العروبة والإسلام في الجزائر ، موجهين ضربة قاصمة للمدافعين عنهما من أبناء الجزائر ، ولأنه وكما يقول المتنبي ((عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ )) . فلقد وجد المتآمرون من كلا الفريقين ضالتهم في مباراة لكرة القدم ، زرعوا من خلالها الكراهية والعداء في نفوس الشعبين وتجازوت الأبواق الإعلامية الخطوط الحمراء بالأمر المباشر مما أوصل الخطاب في الجانبين إلى درجة غير مسبوقة من السفه والانحطاط ،فرأينا من يشكك في تاريخ الكفاح المشترك بين البلدين إلى أن وصل الأمر إلى تكذيب كل وقائع التاريخ ،فيما يمكن وصفه بالردة الكاملة عن ثوابت كانت تعد منذ أيام قليلة من قبيل المسلمات ، ولأن الأمر برمته لا يخلو من مؤامرة متعددة الأطراف ، فلقد كانت الاستثمارات المصرية في الجزائر هي الهدف الواضح والصريح لعمليات النهب والسلب والإحراق التي تمت تحت سمع وبصر قوات الأمن في البلد الشقيق ،هذا الإرهاب المتعمد لم يكن القصد منه الإساءة إلى مصر بقدر ما كان يهدف إلى إخلاء الساحة الجزائرية للاستثمارات الفرنسية بدعم وتشجيع من عدة رموز في النظام الجزائري يقف في مقدمتهم الوزير (أحمد أويحي ) ، كما تلقى هذه الاستثمارات معارضة شديدة من قبل المتمسكين بعروبة الجزائر وهويتها الإسلامية ،ولتاريخ فرنسا الدموي في الجزائر لنحو مائة وثلاثين سنة ، وإذا كانت هذه الاستثمارات سَتُرْفَضُ ،فالبديل جاهز ويتمثل في الاستثمارات القطرية التي تقف وراءها - بدعم كامل- رءوس أموال صهيونية ، هذه الاستثمارات التي حاولت من قبل امتلاك أراض حدودية في مصر- تحديدا في سيناء- واضطرت مصر إلى دفع تعويضات هائلة بعد أن خسرت القضية أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار المعروف اختصارا بـ (أكسيد ) فيما عرف بقضية سياج ، ولأن مصر كانت حصن العروبة الأمين وملاذ كل العرب وصاحبة اليد الطولى في تحرير الجزائر في زمن الرئيس جمال عبد الناصر ، الذي دعم عملية تعريب الجزائر في عهدي الرئيسين بن بيلا وبومدين ، لتعود الجزائر عنصرًا هامًا في معادلة القوى العربية وصاحبة دور هام في القضية الفلسطينية ، وداعم أساسي لمصر في صراعها الممتد مع الكيان الصهيوني – كان على مصر أيضا أن تكون الفاعل الأول في عملية اقتطاع الجزائر ،حتى يُكَفِّر نظام الرئيس مبارك عن خطايا الحقبة الناصرية ، ولأن الذريعة كانت صراع أرجل - وحتى تتم المؤامرة – ارتدى الكثيرون من الكتاب والإعلاميين أحذية الكرة في رءوسهم وأحكموا الأربطة وأخذوا يسكبون الزيت على النار متناسين أن وجود هذه الاستثمارات في الجزائر على ضآلتها - تبلغ حوالي ستة مليارات دولار – قياسا بما هو متاح من إمكانيات هائلة للاستثمار، يشكل أهمية قصوى لعروبة الجزائر وارتباطها بالعالم العربي ، فليس الهدف هو الكسب السريع ولا تكوين الثروات فهذا متاح بشكل أكبر بالنسبة للاستثمارات الفرنسية أو الأوربية أو الأمريكية وحتى الخليجية ، ومن العجيب والغريب أن هذه الاستثمارات المصرية التي لم تحصل على موطئ قدم في الجزائر إلا بعد محاولات مضنية من المخلصين للعروبة في الجزائر يتحدث عن أهميتها وقيمتها المرجفون من الفريقين ، ويعتبرون وجودها الآن من قبيل الإهانة ، ولا أريد أن أسترسل في الحديث عن الكرامة التي أشاعوا أنها أهدرت والأعلام التي ديست وأحرقت ، فالجميع يعرف مقدار احتفاظ كلا الشعبين بكرامتهما في مواجهة نظامين من أشد النظم فسادا واستبدادا ، ورغم ما يعانيه كلا الشعبين على أيديهما من ذل ومهانة وإجرام لا نظير له ،إلا أن أحدا لا يحرك ساكنا ،حتى بدا حديث العزة والكرامة نغمة نشازا في ظل هذا العزف المتواصل على أوتار الذل والمهانة والرضوخ ، ولتشابه الظروف في كلا البلدين كان هناك اتفاق غير معلن على استثمار النصر والهزيمة في المباراة لصالح النظامين ،فينتشي المنتصر بنشوة الفوز، ويمرر ما شاء من قوانين وإجراءات ، بينما يقف المهزوم موقف المدافع عن كرامة الشعب ،والمنافح عن شرفه الرفيع ، والمستعيد لحقه المسلوب . إن مصر الكبيرة لا يمكن أبدا أن تكون أداة لاقتطاع الجزائر من جسد الأمة العربية مهما كانت الأسباب والمبررات ، وخصوصا وقد استبانت الحقائق والمرامي وراء افتعال هذه الأزمة ،ولكن يبدو أن نظام الرئيس مبارك يصر باستماتة على إخراج مصر من جغرافيتها ، كما يسعى دائبا لنفيها من التاريخ0 بقي أن نقول إن الوصول إلى المونديال لا يصلح لاكتساب شرعية تنتقل على إثرها السلطة من الآباء إلى الأبناء ، ولا من الأخوة للأشقاء ، فالأمر برمته هزل في موضع الجد ، وإن دل على شيء فإنما يدل على تهافت تلك الأنظمة وتهرئها وانعدام كفاءتها واستخفافها بحياة الشعوب الغائبة عن الوعي ، فهل نعي الدرس ؟

الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

اعتزال النظام

في حالة الأنظمة المزمنة التي لا تعرف الحياء وتعاند الزمن والناس ، لا بد للشعوب أن تبحث عن بدائل ، فإن استعصت تلك الأنظمة على العزل وجب على الشعوب اعتزالها ؛ لتزول من تلقاء نفسها بعوامل الفناء الذاتي وبالصراعات الداخلية والتقاتل على المغانم ، واعتزال النظام بمعني إقصائه عن حياة الناس ليست فكرة جديدة ، فقد قرأنا منذ سنوات لأحد الكتَّاب طرحا مفاده أن يصحو المصريون مبكرا ذات يوم ويتوجهوا جميعا نحو الحدود ليتركوا مصر خالية وعلى حد قول الرجل ( ويشوفوا بقى هيحكموا مين وهيتجبروا على مين ) والفكرة السابقة على طرافتها وتطرفها واستحالة تنفيذها تطرح إمكانية اعتزال النظام بتقليص التعامل معه إلى أدنى الدرجات ، وعدم اللجوء إلى مؤسساته التي ضرب الفساد في أطنابها والعودة إلى المجالس العرفية وآليات فض المنازعات الشعبية ؛ لحل الخلافات وابتكار طرق جديدة للتوثيق وإثبات الحقوق لأصحابها و تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في التصدي للمشكلات المجتمعية بعيدا عن أدوار لا تقوم بها الدولة إلا على أسوأ حال - وأي فائدة ترجى من الاحتكام إلى نظام لا يستطيع رفع القمامة من الشوارع لأسابيع عديدة - ونذكر أنه من سنوات كانت حركة كفاية – على ما أظن – قد دعت للامتناع عن سداد فواتير الكهرباء والماء والتليفون – خاصة – بعد ارتفاع أسعارها بشكل صادم بسبب احتساب معدلات استهلاك هي أقرب إلى الخيال غير العلمي ، وبعد ما تبين باعتراف بعض المسئولين أنها تقوم على تقديرات جزافية تقترب من عمليات النصب العلني . إن هناك كثيرا من الممارسات اليومية التي يمكن تطبيقها لاعتزال هذا النظام ،وهي بمثابة شكل من أشكال المقاومة السلبية ، على طريق العصيان المدني ، إن نظام الرئيس مبارك الذي تآكلت أي شرعية لوجوده يسعى جاهدا إلى ضخ دماء تبقيه على قيد السلطة لأطول فترة ممكنة ، وهذه الفترة تطول أو تقصر بحسب ما يمكن أن تقدمه الجماهير من تضحيات لإزاحته ، وإذا كان من الصعب الآن أن ندعو إلى فعل إيجابي حقيقي يقابل من قبل النظام الآفل بالبطش الإجرامي ،فليس أقل من أن ندعو عموم المصريين إلى اعتزال النظام ، وليس علينا إلا طرح بعض البدائل المنطقية القابلة للتحقق ، وهي دعوة أزعم أنها ستلقى ردود فعل إيجابية قياسا بعزوف الناس – مثلا - عن الإعلام النظامي بكافة أشكاله حتى باتت قنواته و صحفه ومطبوعاته بمثابة وسائل إعلام سرية لا يتعاطاها أحد حتى أقطاب النظام أنفسهم ، مما جعل بقاءها والإنفاق عليها صورة من أبشع صور إهدار المال العام ، وإذ كنا نسعى إلى اعتزال النظام في تفاصيل الحياة اليومية للمصريين ، فالأولى بنا أن نعتزله في جميع ما يقوم به من انتخابات لا يتوفر لها أي قدر من النزاهة ، فإذا لم يرضخ نظام الرئيس مبارك إلى المطلب الشعبي القائل بعودة الإشراف القضائي الفعلي على صناديق الاقتراع ، وإذا لم يستجب أيضا لدعوة المراقبة الدولية والإشراف الدولي على الانتخابات القادمة من خلال دول ومنظمات لها احترامها،وإذا لم يوفر الضمانات الكافية كإسناد الأمربرمته إلى هيئة محايدة يتمتع أعضاؤها بالسمعة الطيبة والاستقلالية ، فليس أقل من مقاطعة شاملة لهذه الانتخابات ووصم كل من يشارك فيها بالتعاون مع سلطة تمارس القهر والاستبداد ولا تتحلى بأي قدر من الممارسة الديمقراطية ، وإذا كانت الدولة المصرية على مدى قرابة الثلاثة عقود قد تخلت عن أدوارها الحقيقية في توفير أدنى درجات العدالة الاجتماعية والرعاية الصحية وعوامل الأمن والسلامة للمواطنين ، ومارست من خلالها جماعات المصالح ورجال الأعمال عمليات تجريف لم تحدث من قبل للثروة في مصر على أوسع نطاق ، وما تزامن مع هذا التخلي من القيام بأدوار لا تقوم بها أعتى الأنظمة الاستبدادية - تمثلت في تمديد العمل بقانون الطوارئ وسن القوانين المضادة لمصالح الشعب والسالبة للحريات ناهيك عن فرض الجبايات والإتاوات وممارسة البلطجة وإضعاف روح الانتماء لدى عموم المصريين ، وإشاعة روح اليأس مما أسهم بدور فاعل في تدهور المجتمع المصري في مختلف قطاعاته وشرائحه وعلى جميع المستويات، كما قامت بأدوار لا تقل تواطؤا عن ذلك على المستويين العربي والإقليمي – فليس أقل من مقاطعة هذا النظام واعتزاله وتعريته هو و كل من يتعاونون معه منتفعين من بقائه جاثما فوق أرواح المصريين ، هذه دعوة فهل من مستجيب ؟

الأحد، 8 نوفمبر 2009

مؤتمر الكثرة المرتبكة

منذ أيام انفض مؤتمر الحزب الوطني وذهب كلٌ إلى حال سبيله ظانا أنه حقق ما أراد ، والحقيقة أنه لا توجد خيبة أمل واحدة لم تلحق بالمؤتمرين ، فما بين كلمات الافتتاح والختام ، والهجوم على المعارضة والإخوان وما بين محاولة الأب وقف عجلات الزمن والتحلي بروح الدعابة والحديث مجددا عن الصرف الصحي – كان المشروع القومي في فترة الولاية الأولى وربما لازال- وبين محاولات أمين التنظيم تلميع الابن بشدة حتى كادت الطبقة الخارجية تتآكل – تبدى بوضوح أن هناك حالة ارتباك تنتاب الجميع رغم توزيع الأدوار بمهارة بين الهجوم والدفاع والتمترس خلف شرعية البنى التحتية وإمكانية حل مشكلة القمامة في القاهرة والجيزة مع إرجاء بقية المحافظات إلى ما بعد مونديال جنوب إفريقيا ، وقد اتضح بما لا يدع مجال للشك أن الحزب الذي احترف أعضاؤه التصفيق بأنواعه منذ إنشائه ، اتخذ بعضهم الامتناع عنه تعبيرا عن عدم ترحيبهم بالانتقال الآمن للسلطة والذي يرونه لن يكون بحال آمنا بالنسبة لهم ، تزامن مع هذه الفعاليات المباركة جدل واسع حول دعوة الأستاذ هيكل إلى تشكيل مجلس أمناء ، ودعوة الإعلامي عماد أديب إلى استصدار قانون بعدم محاسبة الرئيس ،وكذلك الحديث عن ترشح الدكتور محمد البرادعي في انتخابات الرئاسة القادمة ، ولا شك أن هذا الجدل قد ألقى بظلال كثيفة على المؤتمر ، إذ تسرب إحساس عارم باليأس لدى الغالبية مفاده ، أن التقارير التي لا يمكن أن تقول غير الحقيقة ذكرت أن عملية التوريث لازالت من الخطورة بمكان ،وإنها وإن مرت فسوف تؤدي إلى كارثة ونهاية مؤسفة في غضون عامين على أقصى تقدير ، كذلك فإن كلام الإعلامي أديب – وهو مقرب من مؤسسة الرئاسة المصرية – لا يجب غض الطرف عنه ، لأنه ببساطة شديدة دعوة لتأمين خروج الرئيس مبارك وهذا أمر خطير لا يمكن أن يأتي به أيا من كان من عنده ، تزامن ذلك أيضا مع تنامي الدعوة للرقابة الدولية على انتخابات البرلمان العام القادم ، وكما يعلم الجميع أن النظام المصري يشارك من خلال بعض مؤسساته في الرقابة على الانتخابات في عدة دول وبالتالي فهو لا يملك الأسباب الموضوعية للرفض ، إلا إذا كان ينتوي تزوير الانتخابات – لا سمح الله – تلا ذلك ترحيب الدكتور البرادعي بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية بشرط ضمان نزاهة الانتخابات مما يدعم الدعوة للمراقبة الدولية وخصوصا أن الدكتور البرادعي يحظى بدعم وتأييد الكثير من الدول ذات الثقل على الصعيد الدولي لما قام به من جهود في مكافحة انتشار الأسلحة النووية ناهيك عن حصوله على جائزة نوبل للسلام ، كل ذلك كان له أكبر الأثر في التأكيد على أن الظروف المحيطة بانتخابات الرئاسة في 2011 ستختلف تماما عنها في 2005 ، كما يمكن القول أن هناك حالة من عدم الاطمئنان تسيطر على كثير من رجال الأعمال والمرتبطين بالنظام ،دعت الرئيس إلى توجيه اللوم لبعضهم ممن يديرون محركات طائراتهم الخاصة ؛ ليكونوا على أهبة الاستعداد إذا حدث ما لا تحمد عقباه حسب أحد المصادر ،ومما يؤكد هذه الرؤية أن الحديث عن التعديلات الوزارية بدأ فور انتهاء فعاليات المؤتمر بإطلاق شائعات عن إبعاد بعض الوزراء الذين حظوا خلال الفترة السابقة بالرفض الشعبي التام وعلى رأسهم وزيري التعليم في محاولة يائسة لاسترضاء الشعب الذي يصر باستماتة على أن يكون خارج أوراق اللعبة السياسية ، هكذا يبدو النظام الذي احترف سد آفاق التغيير في حيرة من أمره دفعت البعض للحديث عن إيجاد بديل من داخل النظام فطرحت أسماء مثل علي الدين هلال ومحمد كمال للإبقاء على آمال الاستمرار بأي وسيلة كانت ، كما تجدر الإشارة إلى أن استعلاء وتبجح بعض قيادات الحزب مثل أحمد عز وهجومه الضاري وغير المبرر على قوى المعارضة المستأنسة كان بمثابة التمسك بأهداب الأمل في إعادة وحدة الصف داخل النظام والذي يبدو أنه تحول بالفعل إلى جزر منعزلة ، تتضارب مصالحها بشكل لا يخفى على أحد ، وترتكب من الحماقات ما لو اتفقت القوى المعارضة للنظام على تحقيقه لما استطاعوا ، لا أشك أن النظام يعيش أسوأ فتراته وأنه الآن في حالة تحلل ما تلبث أن تؤدي به إلى النهاية ، وأن وتيرة الأحداث قد تنبئ بانفراط عقد هذه الطغمة التي جثمت على أرواحنا قرابة العقود الثلاثة ، فالتغيير سنة كونية من جاهدها فهو أكبر الواهمين .

الجمعة، 23 أكتوبر 2009

ثغرة التحول


دعنا نسلم جدلاً أنَّ جميع آفاق التغيير في مصر قد سُدَّت منافذها بفعل فاعل معلوم ، شاء له الهوى أن يحول مصر إلى عزبة مرهونة برسم البيع أحياناً وبرسم التوريث أحياناً ،وبرسم النهب والسلب الممنهج والعشوائي دائماً، دعنا نسلم جدلا أيضاً أنَّ المصريين فقدوا القدوة والمثل الأعلى وأصبحوا يشكون في أصابع أيديهم ،ولم يعد لهم ثمة أمل في شيء ، وأنَّ جل مطامحهم أن تتدخل الأقدار بتغييب وجوه جثمت على روح مصر حتى كادت تصعد إلى بارئها – إذا لم تسلم معي بما مضى فأنصحك بعدم إكمال المقال – ونحن عندما نتحدث عن انسداد آفاق التغيير ومن ثم استحالة الإصلاح ، فإنَّه ليس من العقل أو المنطق أن نبحث عن مسالك أو دروب نسير فيها نحو الخروج من هذه الهوة السحيقة - هذا شبه مستحيل- كل ما يمكن أن نفعله أن نبحث عن ثغرة ينفذ منها بصيص ضوء ؛ حتى نهتدي به في هذه الحلكة التامة المثبتة ، وطالما أن السمكة لا زالت تصر على أن تفسد من رأسها ، فإننا لسنا معنيين بالحديث عن الرءوس ولا الأذناب – بطبيعة الحال – ولكننا مَعْنيون بالحديث عن الجسد الهامد الذي يسمونه الشعب ،وقبل أن نحاول الإجابة عن أسئلة تبحث في ضياع الحال وسوء المآل ، ولهذا أسبابه العديدة ، وطالما أننا نريد الخروج من هذه الأزمة ،علينا أن نتعامل مع فظائع الواقع بوصفها معطيات لابد لنا أن نتحرك من خلالها نحو ما نريد- لاحظ أن ظاهر العبارة يبدو صادما- فإذا كانت الآلة الإعلامية تعمل ليل نهار على تغييب الوعي العام أو تخريبه أو تزييفه – التخريب والتزييف يحدثان حين حضور الوعي على حين غرة- ويحدث ذلك من خلال تمرير مفاهيم الأنامالية والحلول الفردية وانتظار ضربات الحظ الفارقة ، مما يرَسُخَها في الأذهان ويحولها إلى حقائق ومُسلَّمات ، في ظل وجود مناخ عام من الشك والريبة والخوف من بطش كل ذي سلطان ، مما جعل جل المصريين يعانون من الانكفاء على الذات أو رفض الواقع والهروب منه إلى دروب التغييب على تنوعها ، وكان من شأن كل ذلك أن يهوى بمعدلات الثقة بالنفس عند عموم المصريين إلى أدنى الدرجات ، مما تسبب بشكل مباشر في إهدار الطاقات الخلاقة والمبدعة وحكم على غالبية الشعب بالعيش البليد وقضاء الأيام في ظل الملل القاتل في انتظار الخلاص الذي لن يهبط من السماء , أخلص من كل ما سبق إلى التسليم بأن هذا الركام من الإحباطات يمكن أن نجد فيه هذه الثغرة المبتغاة التي تمكننا من الانتقال بالوعي العام من مرحلة التخدير إلى مشارف مرحلة التثوير- على مستوى الأفكار فحسب أرجو أن يكون ذلك واضحا- فلماذا لا يتوجه كل الكتاب والمفكرين والباحثين المعنيين المؤمنين بهذا الوطن بجهودهم إلى إعادة بناء الثقة لدى الإنسان المصري ، لماذا لا يخطو المخلصون من أبناء هذا الشعب خطوات نحو إيجاد السبل من أجل تفجير طاقات هذه الأجيال الصاعدة – الهابطة فعليا- ولو من نفس المنطلق البرجماتي الذي يروج له أبواق الميديا المغرضة ، لماذا لا يكون الطريق نحو بعث الروح المصرية هو إعادة إيمان المصري بذاته ؟ ثم لماذا لا يتبنى أصحاب الخطاب الديني الأرضي و الفضائي هذا الطرح بعد أن ثَبُتَ بما لا يدع مجالا للشك أنَّ خطابهم لم يوفق في إعادة المجتمع المصري إلى حسن الخلق و جادة الصواب ؟ وإذا كان الطفل المصري هو الأذكى في مرحلة ما قبل المدرسة وقبل أن تغتال عقله مناهج وزارة التعليم ، فلماذا لا يعمل خبراء مخلصون على وضع برامج تعمل كمضدات الأكسدة للحفاظ على هذا المعدل المرتفع للذكاء . إن اعتماد منهج يقوم على توفير الطاقات المهدرة في ساحات التنظير الجدلي بين الفرقاء في مختلف المجالات سيسهم ولا شك في دفع عجلة التغيير بصورة أو بأخرى فلن يتحقق لنا أي نجاح مادمنا مصرين على قضاء الوقت في البكاء على المجد الضائع – ومتى كان لنا مجد حتى يضيع – إن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها سيفتح – ولا شك – آفاقا جديدة للعمل بعيدا عن روح الاستسلام التي سادت بين جموع المصريين ، وإذا كانت خطابات التحريض والتغريب والإحالة والإعزاء والانعزال والعودة إلى القرون الأولى قد سجلت فشلا ذريعا وبامتياز في بعثنا من الثُبَات العميق ،فإنَّ الحاجة تكون أكثر إلحاحا إلى وسيلة إيقاظ سريعة وناجعة ،حتى لا يصدق فينا قــــول القائل : لقد أسمعت إن ناديت حيا ولَكِن لا حياة لمن تنادي.

الجمعة، 16 أكتوبر 2009

رؤى مسبقة


عندما يتعين علينا أن نبحث عن الأسباب الحقيقية ( أعترف أن الحقيقة هي وجهة نظر في المقام الأول ) والتي يمكن أيضا أن نصفها بالموضوعية - لما آل إليه حالنا من التردي والانحطاط فإن جميع السبل تذهب بنا إلى طريق واحد – ربما عدة طرق فلست دجمائيا - وهو كيف تكون طريقتنا في التعامل مع المواقف على اختلافها ؟ هل نتبصرها بإعمال العقل أم نغض الطرف عنها مفضلين عليها رؤية مسبقة تريحنا من عناء التفكير( لدي رؤية مسبقة وحاكمة أننا دائما نجنح نحو الاختيار الثاني ) في الغالب تقوم الرؤى المسبقة التي تراكمت لدينا عبر خبرات لم يتيسر لها الوقت ولا المعرفة الحقة كي تنضج وتعرف طريق الاكتمال - بدورها في إزاحة العقل أو إحكام السيطرة عليه عبر قيود صارمة تتشكل كالغيوم الكثيفة فتحجب الرؤية الواضحة أو تصيبها بالقصور الشديد على أحسن الأحوال ، وكل هذا من شأنه أن يحول الآراء إلى حقائق ومسلمات بغض النظر عما أحاط هذه الآراء من ظروف وملابسات ووقائع تباعدت ببعد الزمان والمكان ( لاحظ أنه لا أحد فينا يستطيع أن يتبرأ من هذه التهم ) ، ولا تقف تلك الرؤى بمفردها منبتة الصلة عن موروثها الموغل في القدم وهي تنزع إلى تلك الحالة المرضية من الحزن على ما مضى مع الحنين الشــــديد إليه ومن ثم البكاء والعويل عليه ( نوستولوجيا ) فلك أن تتصور نفوسا تقعي على حالها من التخبط بين آساها على ما فات وبين رفضها لراهنها البائس ، كيف يكون تعاملها مع ما يطرأ على واقعها من متغيرات ، هنا لا سبيل إلى البحث عن حلول ،وليس ثمة ما يطرح سوى إرجاء أو إعزاء وكلاهما- في الحقيقة- لا حاجة لنا إليه ،فأما الإرجاء فهو تلك الحالة الإحالية التي نحياها ونبحر فيها مستقلين قوارب التسويف التي نأمل أن تحركها رياح الأمل الراكدة " فلا نأيها يسلي ولا أنت تصبر" ، وأما الإعزاء فهو تخفف من أثقال التسبب والتعلل وإلصاقها بالآخرين ( لاحظ أننا جميعا نتقن ذلك ) ؛ لذا تتحول أبسط مشكلاتنا إلى طلاسم تستعصي على الحل. وكان الحل كما اعتقد البعض في تأليه العقل( هكذا مرة واحدة ) مما جعل الكثير من محاولاتهم تبدو سقيمة ومجانبة للصواب ، فباعتماد العقل مرجعا واحدا أحدا ، ندفع به ليقف عاريا في مواجهة الأحداث ، مستعيدا بدايات الانطلاق نحو قراءة متبصرة للواقع ، متصورا أنه ليس ثمة حدود يمكن أن تحده بينما هو قاصر عن تحليل الكثير من الظواهر ، وفي ظل هذا الغرور تقترف أبشع الجرائم الفكرية حيث يتم تجاوز الفعل إلى القول وفي مرحلة تالية يتم مجاوزة القول ذاته إلى ما وراءه ،وليس وراءه سوى التيه والحيرة والتخبط بين الاحتمالات التي لا تنتهي ،فتتعدد الرؤى المنتقصة دون الوصول إلى حقيقة ،بعد أن نقتل الأحداث بحثا ، وندفنها في أكفـــان التحليـل الجدلي – يبدو أن الجنوح نحو الاكتمال أمر لا مناص منه رغم صعوبة ذلك - وهذه مصيبة نعاينها في واقعنا بشكل لا يمكن تصوره فحتى الأفعال التي تنطوي على أسمى المشاعر الإنسانية يمكن أن تفسر عبر رحلة جامحة من التفسيرات والتأويلات بأبشع ما يمكن أن يتصوره عقل ، فيجهد العقل في البحث عن الدوافع والغايات ويهمل الحدث ذاته ، وكأنه عارض لا يجب الالتفات إليه بينما هو في الحقيقة ذروة الأمر ، إن إعمال العقل في ما مضى من أحداث أمر مطلوب ، بشرط ألا تتحكم فيه الرؤى المسبقة القائمة على روح العداء التي ترى أن الأزمة الراهنة هي نتاج تراكمي لإخفاقات الأجيال السابقة ،وكأننا مبرءون من كل إثم - وبشرط ألا يكون مانعا من استشراف المستقبل والعبور إليه عبر طريــق واضحة تفهم الواقــع وتلبي حاجاته وتحافظ على أواصـــر الصلة بينه وبين المستقبـل – إذا كانت لديك رؤى مسبقة برجاء مراعاة الاشتراطات السابقة- وإذا كنا لا نري أي أمل في الإصلاح إلا من خلال إعمال العقل والتزام المنهج العلمي ، فإننا نرى أيضا أن ذلك لا يجب أن يتحول إلى مخاصمة للتراث والتاريخ باعتبارهما ماضيا لابد من نبذه ونسيانه وذلك بعد تمزيقه وإلصاق كل نقيصة به معتبرين ذلك سبيلا إلى التقدم ؛ اقتداءً بالعقل الغربي الذي تجاوز محنته الخاصة مرات وتعثر مرات وتراجع مرات – خاتمة لا بد منها - بما لا يقاس مع محنة العقل العربي التي لا تعدلها محنة ،والتي هي عند الحل تتأبى على الوارد والوافد وتطلب حلا أصيلا يراعي الخصوصية ولا يخاصم الواقع . فهل تجد ؟ أنا شخصيا أشك .

الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

لا شكر على واجب

إنك لا تورد فرسك نفس النهر مرتين، مثل قديم يضرب للدلالة على استمرار الحياة وجريان مياهها وتغير صروف الدهر على أهلها ، كل ذلك مما يدعم الأمل في النفوس ويزيح حجب اليأس القاتمة ، اللهم إلا هذه الأوثان التي تأبى بكل غطرسة واستعلاء إلا أن تحطمها فأس إبراهيم . من حق لجنة شئون الأحزاب ورئيسها العقيد صفوت الشريف ومن معه أن يرفضوا قيام حزب الوسط ، بل أقول أن هذا واجبهم الذي لا يستطيعون منه فكاكا ، من حقهم أن يحاولوا إيقاف عجلة الزمن ؛ أملا في أن يطول بهم الأمد جاثمين على أرواح المصريين إلى أبد الآبدين ، من حق هؤلاء وغيرهم أن يطفئوا أي نور يبزغ في حياة المصريين ؛ليستمر ظلامهم وظلمهم إلى أن يشاء الله ، والحقيقة أن اللجنة الموقرة التي أقرت رفض الحزب هي أدرى بالحياة السياسية المصرية ، وهي أكثر دراية بالأحزاب القائمة ؛ ولذلك فقد رأت اللجنة أن قرار الرفض هو الأنسب ، إذ أن وجود حزب حقيقي يملك الرؤية الواضحة ، وآليات التنفيذ المجدية والكوادر الفاعلة هو بمثابة السماح للحقيقة أن تظهر في عالم كامل من الأكاذيب والأوهام ، والحقيقة أن أسباب الرفض التي ساقتها اللجنة هي دليل اتهام وإدانة للقائمين عليها ،و إلا فلتذكر لنا اللجنة جوانب التميز التي رأتها في أكثر من عشرين حزبا تمت الموافقة عليها لا يسمع عنها أحد شيئا ولا وجود لها إلا في أوراق اللجنة وبعض الصحف التي لا يقرؤها أحد ، وإذا كان هذا الجهد يصعب على أعضاء اللجنة الموقرة كونهم جميعا ممن تخطوا السبعين ، فليذكروا لنا بعض جوانب التميز في برنامج الحزب الوطني الديمقراطي ،وأعتقد أن هذا لن يكون عسيرا ،فالسيد العقيد رئيس اللجنة هو نفسه ويا للمصادفة أمين عام الحزب الوطني ، وإذا كان وقته الثمين لا يسمح ،فعليه أن يرجع إلى تقارير المنظمات الدولية التي تشيد بالحزب وبرامجه وإنجازاته التي أحالت حياة المصريين إلى جحيم لا يطاق لتحتل مصر المركز 57 من بين 60 دولة في تقرير البؤس العالمي من حيث معدلات البؤس والشقاء والتخلف والفقر. فياله من تميز يحسد عليه الحزب ويغبط عليه رجاله الذين لا هم لهم سوى إسعاد المصريين ، ولكنهم للأسف لم يفلحوا في ذلك رغم تميز برنامجهم الحزبي وتوفر حسن النية إذ يشير تقرير الحالة النفسية إلى أن 20 مليون مصري مصابون بالاكتئاب. وينتحر منهم سنويا 1200 مواطن يعيش منهم 43.5 % في القاهرة الكبرى ، وبسبب تميز حزب السيد العقيد يعيش 45% من المصريين تحت خط الفقر ويحصلون على أقل من دولار في اليوم (لجنة الإنتاج الزراعي بمجلس الشورى). وطبعا كل هذا التميز وغيره لا يتوفر في برنامج حزب الوسط ، وهو لا يستطيع إن خرج إلى النور أن يحقق مثل هذه الإنجازات فكيف تقبله لجنة العقيد صفوت الشريف والذين معه ، أما عن تميز الحزب الوطني في مجال إهدار المال العام ،فلا تتحدث إذ أن الأمر كله لا يجلب الحرج فحسب ، بل يجلب الجنون أيضا ففي الفترة من أبريل 2008 إلى يناير 2009 بلغ حجم ما تم إهداره بسبب استشراء الفساد في الجهاز الإداري للدولة المصرية المتميزة ما مقداره 39 ملياراً و373 مليوناً و524 ألف جنيه(تقرير عام 2008 لمركز الدراسات الريفية). إن هذه اللجنة والمنتسبين لها والمنتفعين منها ومن لف لفهم يستحقون الشكر والتقدير على ما بذلوه من جهد للحيلولة دون ضخ دماء جديدة في شرايين الحياة السياسية والحزبية في مصر ، والتي عانت الانسداد التام منذ ما يقرب من ثلاثين عاما ، وما كان مطلوبا منها أن تفعل غير ذلك ، إذ أنها تؤكد بذلك انتماءها لهذا النظام الذي دأب قرابة الثلاثة عقود على حرمان المصريين من حق الحياة نفسه ، فكيف نطلب منهم أن يعيدوا شيئا من الروح إلى الحياة السياسية ... أما عن ما ساقته اللجنة من تعارض أفكار الحزب مع أحكام الدستور والقانون فلن أزيد على أن النظام المصري ممثلا في حزب الحكومة وحكومة الحزب هو من أعاد صياغة الدستور ليوافق أفكار وأهواء ثلة من الطامحين والطامعين ومحتكري أرزاق الخلق ،أما عن أحكام القانون ، فالعقيد صفوت الشريف ولجنته الموقرة يعلمون جيدا عدد الأحكام القضائية النهائية التي ضربت بها سلطتهم التنفيذية عرض الحائط .. مما ينسف أسباب الرفض من أساسها .... لكن هذا هو جهدهم ،وهذه هي كفاءتهم ،فماذا ننتظر ؟

السبت، 15 أغسطس 2009

مصر التي أرادوا


برتابة شديدة وبطء قاتل تسير وتيرة التغيير في مصر ، ولهذا أسبابه الموضوعية المتعددة بدءًا من الموروث الثقافي المصري الذي يُزَهِّد في فوائد التغيير ،ويراه شرًا مستطيرًا وليس انتهاء بما تروِّج له الآلة الإعلامية الرَّسمية من خطورة الإصلاح الجذري على الشَّعب الذي ربما يصاب بصدمة عصبية جراء ذلك ، ولأن العصر الذي نعيشه هو عصر( الميديا ) بكل ما تعني الكلمة كان لابد من العمل الدءوب على توفير المناخ المناسب الذي يرى الشعب من خلاله كيف يصبح الركود استقرارًا ، وكيف تصبح الخيبة وقلة الحيلة والعجز صنوفاً من الإدراك الثاقب والحكمة المصفاة، وكان من المهم أيضًا أن تشيع بين النَّاس روح اليأس ، مع الإبقاء على بصيص من الأمل تكرِّسه الحلول الفردية وضربات الحظ الفارقة ، والحقيقة أنَّ ما تقوم به هذه العقول العابثة من أفاعيل تستهدف في المقام الأول تزييف الوعي الجمعي للمصريين ، وإجهاض كل محاولة مخلصة للتغيير وتسهب في سبيل ذلك في شرح أسباب التردي الواسع النطاق الذي شمل البلاد والعباد ، مرجعة ذلك كله إلى أمور قدرية لا يد لأحد فيها ، وأنَّه لولا هؤلاء النفر من المسئولين الذين قَيَّضَهُم الله لهذا البلد لكنَّا في حال أسوأ بكثير مما نحن عليه الآن ؛ هذه العقول البائسة لن تفلح في مسعاها طالما أنَّ السمع لا يغني عن البصر ، وأن من رأى الظلم ليس كمن اكتوى بناره ، إذ أن ما يلقون على أسماع الناس من أباطيل لا تقنع طفلاً ,لا تَلْقَى من الناس إلا كل سخرية ، ونسمع كثيرًا تساؤلات المواطنين : عن أي بلد يتحدث هؤلاء ؟ هل حقاً يتحدثون عن مصر ؟ والحقيقة أنَّ هذا دأب مدمني الانكفاء على الذات ومحبي الاختزال ،فتصبح مصر كلها مختصرة في القرية الذكية ، ويصبح الشعب المصري بملايينه الثمانين مختزلا في ثلة المحبين للنجل الذين ينامون ويصحون على حلم التوريث- راجع آخر تصريح لقداسة البابا شنوده- هذا الحلم الذي يخالف طبيعة الحياة الرتيبة في مصر ويسير بسرعة الصاروخ نحو التحقق ، منحياً من طريقه كل عقبة كْأدَاء ،حتى لو استلزم ذلك أن تصبح مصر كلها مؤجلة حتى إشعار آخر برسم انتقال السلطة من الأب إلى الابن ، وإذا كان هذا السيناريو التعيس هو الوحيد المطروح الآن ، والوحيد أيضًا الذي تتجلى كافة أبعاده ومراميه ، في مقابل سيناريوهات الفوضى ، وحكم دعاة الدولة الدينية ، يصبح هو السيناريو الأقرب لظروف الوطن المأزوم ، وبه يتحقق الحد الأدنى من الخسائر ، ولا حديث هنا عن المكاسب ، لأنَّه حتى المتفائلين من فئات المعارضة الهامشية يقرُّون أنَّ ما أحدثه العصر المبارك خلال ثلاثين سنة لن يُخَلِّف سوى تركة الخراب وقسمة الغرماء ، هكذا يتم تدعيم الفساد بزراعة اليأس في النفوس ، بعد أن تقلصت الرقعة الزراعية في مصر منذ 81 بمقدار الثلث ، على الرغم من ذلك فقد حققت زراعة اليأس نتائج غير مسبوقة ، فليس من سبيل للنجاة إلا أن يتعلق المواطن بأمل عضوية الحزب الحاكم ،حتى يلقى علاجاً متميزًا حسب تصريحات السيد الأمين العام ، ولا يلومن إلا نفسه بعد ذلك إن هو أعرض أو نأى بجانبه ، وليس من سبيل إلى مواجهة هذا الطوفان إلا أن تتضافر الجهود المخلصة لإيقاف هذا المد العاتي الذي آل القائمون عليه على أنفسهم تمرير هذه الجريمة النكراء ،لتدخل البلاد في مرحلة أشدَّ إظلامًا لن تخرج منها إلا أن يشاء الله ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإيقاظ المصريين من غفوتهم ؛ ليقدموا تضحياتهم على مذبح الحرية التي لا توهب بل تنتزع انتزاعًا ، وسيتكفل هؤلاء البائسون الذين غرَّهم طول الأمد بدفع الثمن الباهظ عن ثلاثين سنة من القهر والاستبداد والانكفاء أمام أعداء مصر ، حتما سيدفعون الثمن وسيذيق الله بعضهم بأس بعض ، فحتى رءوس بعضهم لا يضنون بها ، إذا كان الثمن هو بقاؤهم ، وسيقول بعضهم لبعض وقتها ،إنما أكلنا يوم أكل الثور الأسود ، وهو ثور معروف للكافة قدمت رأسه مقابل الإبقاء على استثمارات تقدر بمليارات الدولارات ، قدموه ولم تطرف لهم عين ، وغدًا يقدمون للمحاكمة لينالوا جزاءهم الرادع ... وإنَّ غدًا لناظره قريب .

الأحد، 9 أغسطس 2009

المتلاعبون بالقامات

أكدت دراسةٌ موثَّقةٌ قام بها باحثون في معهد بحوث الأغذية التابع لمركز البحوث الزراعية أنَّ 38% من المصريين يعانون من التقزُّم الغذائي ، وهو قصر القامة المرتبط بسوء التغذية ، معنى ذلك أنَّ المصريين في طريقهم ليكونوا شعبًا من الأقزام ، وتبعًا لنظرية المؤامرة التي نحب جميعًا أن نرجع إليها كافَّة الأحداث والظواهر والمصائب السوداء التي تحيق بحياتنا في هذا العهد السعيد ، فإنَّنا أمام مخططٍ خارجي - أو داخلي أصبح كلاهما سواء – يهدف إلى تقزيم الشعب المصري ،بعد أن تقزَّم دوره فعليًا في كافَّة مناحي الحياة تمهيدًا لإدخاله مُتْحَف التاريخ البيولوجي ؛ لتخلو مصر بعد ذلك للعمالقة من أمثال الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء – أطال الله قامته - والحقيقة أنَّ النَّظام المصري إذْ يسعى إلى ذلك سعيًا حثيثًا ، يكون قد دخل في مرحلةٍ حاسمةٍ ألا وهي إعادة الاتساق إلى شكل الحياة في مصر ،لتصبح القامة القصيرة للشعب هي السمة الغالبة ،بينما تصبح القامة المديدة من نصيب حكامه والمتحكمين فيه ، وبالطبع فإن هذا يكرس للمفهوم الذي روَّج له النِّظام كثيرًا على اعتبار أنَّ السعي للوصول إلى سدة الحكم هو تهمة يتهم الناس بها ويحاكمون بشأنها أمام المحاكم العسكرية ، إذ أنَّ هذا السعي هو في حقيقته حكرٌ على أصحاب القامات المديدة ، ولعلَّ من مميزات هذا الفرز الجيني ألا يَحَار رجال الأمن في معرفة هُوية الشخص محل الاشتباه ، وهل هو من عامَّة الشعب أم من السَّادة ؟ وما سيصاحب ذلك من إجراءات بسيطة تتلخص في فحص حذاء المشتبه به من حيث كونه كعب عالي أم لا ، ومن الطريف في الأمر أن تسوق الدراسة الجادة أسباب هذا التَّقَزُّم إلى اختفاء الرِّضاعة الطَّبيعية والوجبات المنزلية لطفل ما دون السادسة ، والاتجاه العام لدى أطفال المصريين لتناول الشيبسي والوجبات السريعة خارج المنزل ،مما يعكس إدانةً جديدةً لنمط الاستهلاك الغربي الذي أصبح سائدًا في المجتمع المصري ، وليس في وسعنا – طبقًا لنظرية المؤامرة أيضًا – أن نُخْلِي مسئولية النظام المصري من الترويج لثقافة الاستهلاك عبر وسائل إعلامه الرائدة في الترويج لكل ما هو غثٌ وبعيدٌ عن قيمنا وثوابتنا الثقافية والوطنية ، وليس من نافلة القول أن نؤكد على أنَّ هذا الاتجاه لدى النظام المصري ،ربما يكون من بواعثه الحدُّ من الزيادة السكانية ،إذ تؤكد الأبحاث الطبية أن قصار القامة أكثر عرضةٍ للإصابة بالأمراض ،ناهيك عن قصر أعمارهم بالمقارنة بأصحاب القامات المديدة ، وربما يكون من مميزات هذا الفرز الجديد أن يقضي على جميع أشكال التمييز التي تضرب بنية المجتمع المصري في مقتل ، وسيكون من ثماره اختفاء الطائفية والاستقطاب السياسي والأيدلوجي ، وفي ظل هذا كله يصبح الحديث عن التغيير أو الإصلاح السياسي أو تداول السلطة من قبيل العبث ، إذ ستنحصر الاختيارات في ثلة من المسئولين مديدي القامة ،حسني التغذية ، والذين سوف يولون البلاد والعباد الرعاية والعناية ،بوصفهم طيورَا محلقةً ترى الوطن من علٍ وتسبر أغوار خباياه بيسر وسهولة ، كما أن مواجهة الاحتجاجات الفئوية و الشعبية لن يكون من الصعوبة بمكان ، كما أن التأثير على الوعي الجمعي للشعب سيصير فاعلا ًبدرجةٍ كبيرةٍ ،إذ ستتلقاه الجموع تلقي الوحي المنزل ، إلى هذه الدرجة هم ناقمون على هذا الشعب ، إلى هذه الدرجة تؤلمهم نكاته ، ويغضبهم صبره وصموده ، ماذا سيصير الحال إذا بالغ الشعب القزم في غفلته ؟ هل سيرجعون عنه ؟ هل سيكفون عنه أيدي تدبيرهم و تآمرهم ؟ لا يمكن أن يحدث ذلك فلقد تبدت وجهة نظرهم واستبانت رؤيتهم ،إنَّ معركتهم غير المتكافئة مع شعب مصر هي صراع وجود ، يرون أنَّ بقائه يشكل عبئًا لا يمكن تحمُّله ، وأنَّ زيادة عدده كارثة لا توصف حسب تصريحات السيد جلفر الذي هو بحسابات التاريخ يعيش في بلاد العمالقة وبحسابات الواقع المأمول يعيش في بلاد الأقزام ، ولكن ورغم كل هذه التدابير ، إلا أنَّ أولي الأمر قد خفي عليهم أمورٌ كثيرةٌ ، ربما تحبط كيدهم ، منها أن الإنسان يزداد مكرا كلما اقترب من الأرض ، وأنه يصبح أكثر شراسة وعدوانية كلما كان خصمه أطول قامة وأكثر عدة وعتادا ، كما أن سبل الكر والفر تكون أيسر لذوي الأحجام الضئيلة ، كل هذه الظروف المناوئة تفجر لدى الإنسان طاقاته الكامنة ،وتزيد وعيه بالعالم من حوله ، فيصبح أكثر إيمانا بالحياة وأشد حرصا عليها ، وربما تكون بارقة الأمل الذي انتظرناه طويلا ،دعوة تخرج من مكان قصي يلتف حولها شعبنا العظيم : يا أقزام مصر : اتحدوا .

الاثنين، 3 أغسطس 2009

إنقاذ مصر

دعا المرشد العام للإخوان المسلمين عقلاء الحكومة والحزب الوطني إلى لعب دور في وقف الحملة الموجهة من قبل النظام ضد الجماعة ، وكانت الجماعة قد دعت شرفاء المصريين للحوار والتعاون من أجل مصلحة مصر ، وكان فضيلة المرشد قد وجه رسالة إلى معتقلي الجماعة جاء فيها أن أعضاء الجماعة اعتقلوا لتحقيق أهداف صهيونية أمريكية غربية تتمثل في تصفية القضية الفلسطينية، وتمرير المشروع الغربي القائم على الانفلات من الأخلاق والدين. جرت كل هذه التصريحات والدعوات خلال الأيام القليلة الماضية واللافت للنظر في تصريحات فضيلة المرشد أن هناك تضاربا واضحا بين اتهام النظام المصري بتنفيذ أجندة صهيوأمريكية متمثلة في اعتقالات أعضاء الجماعة ودعوته عقلاء الحزب والحكومة إلى لعب دور لوقف هذه الحملة ، وتزامن ذلك مع الدعوة التي وجهتها الجماعة إلى الشرفاء من أبناء مصر للحوار والتعاون من أجل مصلحة مصر فيما عرف إعلاميا بالدعوة لإنقاذ مصر ، وهنا يبدو الخلط واضحا بين ما يتهدد الجماعة من أخطار وما تعانيه البلاد من أزمات بسبب سياسات النظام المصري ، ويبدو واضحا أن جماعة الإخوان المسلمين لازالت وإلى اللحظة الراهنة تتمتع بممارسة لعبة التماهي في الدين والوطن بوصفهما كيانات يمكن دمجها في الجماعة بحيث يصبح الهجوم على الجماعة هو هجوم على الإسلام ، وتصبح الاعتقالات التي تستهدف أعضاء الجماعة هي لتصفية القضية الفلسطينية ويصبح إيقاف الحملة الموجهة لقيادات الإخوان هو السبيل لإنقاذ مصر ، وهذا إنما يسترعي انتباه الكافة إلى حجم الالتباس في فكر الجماعة ومنهجها ، وهذا ما أكده الدكتور عصام العريان في قناة الجزيرة عندما صرح أن عقلاء النظام المصري – الذي رفض أن يسميهم – مبعدون عن مراكز صنع القرار المحتكر من قبل جماعات المصالح ورجال الأعمال المقربين من نجل الرئيس ، مما يؤكد أن الحديث عن عقلاء النظام هو حديث يفتقر إلى الموضوعية ،وإن كان لا يخلو من طرافة ، فالنظام المصري الذي دأب على وصف الجماعة بالمحظورة عبر وسائل إعلامه المختلفة لم يتورع عن مغازلة الجماعة وخطب ودها في كثير من المواقف ، في مقابل ذلك التزمت الجماعة الصمت لوقت طويل تجاه الجدل الدائر حول قضية توريث السلطة في مصر ، إلى أن أعلن الدكتور محمد حبيب النائب الأول لفضيلة المرشد ((أن الإخوان المسلمين لن يعارضوا سعي جمال مبارك إلى المنصب إذا ترافق ترشيحه مع إصلاحات مثل إلغاء قانون الطوارئ وإعادة الحريات المدنية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وهي شروط قال حبيب إنه ليس من المرجح أن تفي بها مصر)). وكان الدكتور حبيب قد صرح أن خوض مواجهة مفتوحة مع النظام بشكل منفرد هو أمر تستبعده الجماعة ، ويبدو واضحا أن الجماعة تلتزم خطا يحافظ على تصنيفها كجماعة معارضة في الشارع مع الحفاظ على شعرة معاوية بينها وبين النظام والذي لا يطمح بدوره إلى إنهاء وجود الجماعة لما تمثله من قوة داعمة لبقائه واستمراره بوصفها البديل الأسوأ للنظام من وجهة النظر الصهيو أمريكية ، كما أن اختصار جميع البدائل في الجماعة يعد هو الاختيار الأكثر يسرا لقوى الداخل التي تستدعي التاريخ الدموي للإخوان بمناسبة وبدون مناسبة ، مما يؤكد أن العلاقة بين الإخوان والنظام لن تشهد حسما على المدى القريب ؛ لكون كلا الطرفين ملتزمان إلى حد كبير بشروط الصراع وآلياته ، مع وجود هامش للمناوشة بين الطرفين يوهم بالحراك ويستدعي حيوية غير حقيقية للمشهد السياسي الراكد ، وليس بعيدا عن كل ما سبق أن نستعرض موقف الجماعة من اعتقال اثنين من كبار أعضائها وهما المهندس خيرت الشاطر والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ففي حين أقامت الجماعة الدنيا ولم تقعدها لاعتقال المهندس خيرت الشاطر ، تعاملت الجماعة مع اعتقال الدكتور أبو الفتوح بفتور ، حتى تقوَّل البعض كلاما مرسلا عن نجاح الجماعة في التخلص من أبو الفتوح الذي استطاع خلال الأعوام القليلة الماضية استقطاب الكثير من شباب الجماعة نحو رؤية إصلاحية أكثر انفتاحا على الواقع ، وأذكر أن الرجل كان قد صرح أنه لم يعرض عليه برنامج حزب الإخوان ،وأنه كان قد قرأه كغيره على أحد المواقع الإلكترونية ، إن موقف الجماعة من كلا الرجلين ومن اعتقالات أعضاء الجماعة ومن الدعوة التي أطلقها المرشد يؤكد استعداد فضيلته ومن معه للعمل بكل قوة لإنقاذ مصر بشرط أن نتفق ضمنيا أن اسم مصر هو الاسم الحركي لجماعة الإخوان المسلمين .

الثلاثاء، 7 يوليو 2009

هكذا تموت الأشجار


تدفعك أمور كثيرة لا يمكن حصرها للكتابة عن الدكتور عبد الوهاب المسيري ، وتدخلك ذات الأمور متاهة الحيرة ، ومكمن الحيرة هنا عن أي جانب من جوانب هذه الشخصية ستكتب ، فأنت أمام عالم موسوعي أعاد صياغة كثير من الأفكار التي استمرت لزمن طويل ، حتى رسخت في الأذهان وهو أيضا تلك القامة الشمَّاء التي أعادت للمصريين الأمل في مواجهة جبال اليأس والتأزم التي أرساها نظام ناصبهم العداء على مدى قرابة الثلاثة عقود ،حين نزل إلى الشارع وقاد الاحتجاجات والمظاهرات متناسيا حالته الصحية الخطرة ،ضاربا المثل للمثقفين الذين أدمنوا سكنى الأبراج العاجية ، كان الرجل بإيمانه الفلسفي العميق وبروحه الوثابة استثناء يجل عن الوصف ، ويتأبى على الحصر يصنع البهجة أينما حل ويدهشك بعفويته التي تثبت لك أن هذا الشيخ لم يغادر أرض طفولته بعد ، تدخلك إحدى عباراته الرشيقة إلى عالم من الوجد المعرفي لتعيد قراءة نفسك من جديد ، فتراه وهو الباحث الأكاديمي المرموق يخاصم المعلوماتية ،و يقاوم الذئاب الهيجلية ، ويخلق نماذجه الإدراكية والتفسيرية ويوضح الفرق بين الموضوعية و الموضوعاتية ،وهو في خضم ذلك لا يفوته أن يرفه عن روحك باستعراض أزمة الشخصية المصرية الممزقة بين أصالتها وحداثتها في تحليل فارق لفيلم سبعيني أو أغنية مصورة ، ويجيب عندما يسأل ماذا بقي لديك من الماركسية ؟ لا شيء وكل شيء ، فيجعلك بجملة كهذه تخلع نظرتك الحدية وتضعها جانبا ؛ لتعيد تقييم التجربة بعين الإنصاف ، ويقول : لو خلقت فلاحا في حقل أو حتى كناسا لمارست عملي بنفس الدرجة من الإتقان والمتعة ، فالكتابة التي تقوم على الإخلاص للمبدأ لا تمنح الكاتب فخرا ولا تورثه تعاليا ،بل تدفعه دفعا ليكون بين آحاد الناس ، ليحتفظ ببراءته ودهشته تجاه الأشياء الجميلة حتى آخر أيام حياته والتي كان فيها صانعا ماهرا للأمل والتفاؤل ومحاربا مجيدا لكل صنوف اليأس والقنوط ، قطع المسيري رحلته الفكرية كما أسماها عبر محطات جسدت إيمانه العميق بالإنسان الذي هو مركز الكون وظل منشغلا بهذه القضية منذ بداياته الأولى وتفتح وعيه على الفكرة الفلسفية التي قامت على اعتبار أن الإنسان مقولة مستقلة عن العالم ، قال الدكتور المسيري عن هذا الأمر أنه عندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا المنامية سأله هذا السؤال : هل الإنسان هو مركز الكون ؟ وكانت الإجابة بنعم . لا أكون مغاليا إذا زعمت أن ذروة عطاء الراحل العظيم من وجهة نظري تكمن في ما كتب عن منهجية الأبنية المعرفية الإنسانية ، وعوامل التغير والثبات فيها ، وما تخضع له هذه الأبنية المعرفية من تأثيرات التضليل والتعمية ، فعل الدكتور المسيري ذلك من خلال تشريح دقيق للأسس التي قامت عليها الحداثة الغربية ،وعصور استنارتها المظلمة ،وتحررها من القيم ، وانتهائها إلى معاداة الإنسان ودخولها تيه ما بعد الحداثة ، كما كانت رؤية المسيري لإشكالية التحيز محاولة أخرى من محاولاته لاستقراء أهم الأسباب والدوافع التي حدت ببعض مفكري الغرب إلى تبني فكرة صدام الحضارات ونهاية التاريخ ، واعتماد مبدأ العداء في التعامل مع العرب والمسلمين ودعم الأنظمة الاستبدادية ؛ لنخلص من ذلك إلى أن العقل الغربي لازال يعيش أسيرا لعقلية السيد المسيطر على كل شيء ، والذي لا يرى في الآخر إلا عبدا ينتظر الإحسان من سيده ، قدم الدكتور المسيري خلال رحلته الدنيوية أجل الخدمات للبشرية ، والتي ربما ستحتاج منا إلى وقت طويل حتى نستفيد منها بالقدر الذي يرضي هذا العالم المجدد الذي كانت حياته بتقلبات صروفها أبلغ تعبير عن رحلة الإنسان الحقيقي لبلوغ الإجابة عن تلك الأسئلة المصيرية التي يعرض عنها كثير من الناس ، ولا ينشغل بها إلا من كان في قامة المسيري ،فيفتح الله به أفئدة دأبها معرفة الحق و اتباعه ، ويضل به قلوبا غلفا لا تمل اتباع الهوى وإن طال بها الزمن ... رحم الله العالم عبد الوهاب المسيري وجزاه عنا خير الجزاء .

الثلاثاء، 16 يونيو 2009

يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ

من الأمور التي تتميز بها العقلية العربية دون غيرها ، القدرة الفائقة على لي أعناق الحقائق ، والتعامي عن المسلمات ، وإلباس الحق ثوب الباطل ، والتوغل غير الحذر في طريق الأماني دون اكتراث لصوت العقل ،كذلك الادعاء الساذج بإمكانية التغيير وفق مثاليات تقوم على أساس من الخلط بين الوهم والأمنية ، ثم يوضع هذا كله وغيره في سلة التفاؤل والعمل على إيجاد منافذ حقيقية للخروج من أزمات العقلية الماضوية التي أنهكتها الأفكار المسبقة ،فراحت ضحية التهويل وفكرة المؤامرة ، وليس أدل على ذلك من ردود أفعال البعض من النخب السياسية والفكرية ذات الخلفية الليبرالية التي رأت في أوباما نبياً للتغيير وبشيراً ونذيراً يجب اتباعه والسير على هداه ، والأعجب من ذلك أن هذا الإعجاب الصبياني تخطى لغة الخطاب وبلاغته الإنشائية إلى أشياء تتعلق برشاقة الرجل وشبابه ووسامته وخفة ظله وحسن اختياره لملابسه ، وغير ذلك من الصفات التي تصلح لأن تكون موضوعاً لحديث شيق بين سيدتين في منتصف العمر يجلسان في أحد نوادي القاهرة الشهيرة ، ولا أظن أن خطاباً لرئيس أمريكي قد نال هذا القدر من الاهتمام والتحليل ،بل أزعم أنه قتل بحثاً ودفن تمحيصاً بعد أن أحصيت حركاته وسكناته ،ودققت ألفاظه لسبر أغوار ما يمكن أن توحي به من دلالات وما يمكن أن تنبئ به من إيحاءات ، فجاءت المحصلة لتشي بالكثير من الجعجعة والقليل جداً من الطحين ، بعد أن أفصح الخطاب عن ديماجوجية مذهلة تدغدغ مشاعر العامة وتلهب خيال الحالمين بمستقبل وردي ،دون أن تطأ بقدميها أرض الواقع المزدحم بالمتناقضات التي تستعصي على الحل وتتأبى على التحايل ، وهذه الصياغة المستعملة تشبه إلى حد كبير تلك اللافتة التي وضعها أحد التجار على باب متجره لجذب الزبائن فكتب عليها (( البيع غداً بربع الثمن )) ولكنه لا يرفعها أبداً ولا ينوي رفعها ، وبالتالي فإن هذا الغد لن يأتي أبداً ، لعلنا ندرك إذن أن الخطاب الذي وجه إلى العالم الإسلامي وفي القلب منه العالم العربي ، إن كان له ما يميزه فهو القراءة الجيدة لهذه العقلية التي كان أصحابها قديما يدفعون الذهب لقاء قصيدة مدحٍ فجةٍ لا تسمن ولا تغني من جوع ، هذه العقلية التي لا تجتر مآسيها على الملأ حفظاً للشرف الرفيع الذي سالت على جوانبه أنهار من الدماء عبر التاريخ ، وبالتالي فهو خطابٌ للاستهلاك المحلى بامتياز ، إذ لا يمكن ترويجه بحال خارج حدود عقلية الفيافي التي تنافح عن تفوقها ، وهي مستعدة في سبيل تلك المنافحة أن تقدم التنازل تلو التنازل في مقابل أن تسمع معسول الكلام بغض النظر عن الفعل فهو ما يلبث أن ينتهي وما تلبث أثاره أن تنمحي ،بينما تبقى القصائد في ذاكرة الشعوب إلى أن يرث رب البيت الأبيض الأرض ومن عليها وما في بطنها من النفط دون الحاجة إلى حروب صليبية أو هلالية أو اهتبالية ، طالما بقيت أسس الشراكة الجديدة والتعاون الاقتصادي قائمة على هذا التلاقح المثمر بين الحضارات الصاعدة والهابطة وسياقات التفاعل بين حروف الجر إلى الحتف ونكهة الكوكا كولا ، وبين لا النافية للجنس الفلسطيني من الوجود والماكدونالدز وبين نائب الفاعل المتواطئ و العولمة متعددة الثقافات ، أسس تقوم على الاحترام وخلع الأحذية لا التقاذف بها أمام شاشات التلفزة ، ولا تبدو آمال الشعوب بين هذا كله سوى كماً مهملا ً ،إذ لم يتسنى لها مشاهدة الخطاب والتفاعل معه ولم ينل الحليوه الأسمراني من الإعجاب لديها ما ناله لدى غيرها من أصحاب الياقات البيضاء ، وبالتالي فهي خارج المشهد ، وإن كانت تطمح إلى الديمقراطية والحكم الرشيد فهذه البضاعة الآن ليست موجودة لدى السيد الأمريكي لا على الأرفف ولا في مخازنه العامرة ، لذلك نحيطكم علما أن ما يصلح لغيركم من الشعوب ربما لا يصلح لكم كما أن الضرر يبدو محققاً إذا تم تناول جرعات الديمقراطية دون استشارة الطبيب ، يبدو المشهد عبثياً جداً رغم أنه لا يدعو للضحك ولا هو أيضا يثير البكاء ،بل هو على عبثيته يبدو مدبراً ومفتعلاً وسخيفاً ، خاصة عندما كان الغزال الأسمر يتهادى أمام الأهرامات في صحراء الجيزة ،في حين كانت أشرطة الأخبار المتعجلة تعلن في الأسفل إفلاس جنرال موتورز وكرايسلر ،ليلحقا بمئات الشركات الأمريكية التي لم تنفعها فصاحة الفتى ولا جمال خطوته .

الأربعاء، 10 يونيو 2009

بواكي أوباما


أثَارَتْ زيَارةُ الرَّئيس الأمريكي بَارَاك أُوْبَامَا لِمِصْرَ وخِطَابَُه فِي جَامِعَةِ القَاهِرةِ جَدَلا ًغَيْرَ مَسْبُوق ٍ تَنَوَّعَتْ فِيهِ الآرَاءُ بَيْنَ مُؤيدٍ مُتَفَائلٍ ومُعَارضٍ يَرَى أنَّه لَيْسَ ثَمَّة تَغَيرٌ يُذْكَرُ فِي الخِطَابِ الأمِريكي ، اللَّهُمَّ إلا هَذَاْ الاسْتِخْدَامُ المُفْرِطُ للحَدِيثِ العَاطِفي الذي لا ينبني عليه شيء ، وبينما رَأى أنْصارُ الفَريق ِ الأول أنَّ أُوْبَامَا بِتاريِخِه ورِحْلَةِ صُعُودِه يُمَثلُ نَذِيرًا عُرْيَانًا بِالتَّغْييرِ ، رَأى الآخَرونَ أنَّه مِثَالٌ واضحٌ لِلأزْمَةِ الأمْرِيكيةِ التي تُخَالِفُ ثَوابتَها عَلنًا ،وتؤكدُ عليها في الخَفَاءِ ، وبينما يَتَحَوَّلُ الجَدَلُ إلى مُساجَلاتٍ ومُلاسَنَاتٍ لا طائلَ من ورائِها بينَ أنصارِ الفريقين ،حيثُ مَثَّلتْ الزيارةُ بزمانها ومكانها ما اعْتََبَرهُ البعضُ دعمًا مُباشرًا لأعْتَى الأنْظِمَةِ الاستِبْدَاديةِ في المَنْطقةِ ، مما يؤكدُ تراجعًا واضحًا عَنْ التوجهِ نَحْوَ تَعْزيزِ الدِّيْمُقْرَاطِيةِ فِي الشَّرقِ الأوسط والذي لَوَّحتْ به الإدارةُ الأمريكيةُ السَّابقةُ ، وقَدْ تشي تلكَ التَّصَرُّفات أنَّ هناكَ تَغَيْرًا ما قََدْ طَََََََََََََََرَأ على السياسات الأمريكية ، ولَكِنَّ الوَاضحَ أنَّ هُنَاكَ تَخَبُطاً شديدًا ُربَّمَا يكونُ قْدْ نَتَجَ عَنْ الفَشَل الأمريكي الذَّريع على عِدةِ أصْعِدةٍ ،ليسَ آخرها الطَّلبُ الأمريكي المقدمُ لدى فَصَائل المُقَاومة الأفْغَانية لِمخاطبةِ عُقلاء طالبان ، وهولا يحملُ بالضرورةِ توجهًا جادًا نحوَ إنْهَاءِ الاحتِلال الأمريكي لأفغانستان ،بقدر ما يؤكدُ حَاجَةَ الأمريكيين إلى فرصةٍ لالتقاط الأنفاس ، وليسَ ثَمَّة شكٌ أنَّ الإدارةَ الأمريكية الجديدة تُعاني من ثقل تركةِ الإدارة الأمريكية السَّابقة ، في ظل نُدرة الخيارات المُتاحةِ للخروج من نَفَقِ الأزمةِ ، كما أنَّ هناكِ تعاميًا واضحًا عن الأسبابِ الحقيقيةِ لما تعانيه الولاياتُ المتَّحدةُ من أزماتٍ ، يرى كثيرٌ من المحللين المُنْصِفينَ أنَّ من أهم أسبابها الاستخدام المفرط للقوة في التعامل مع الأحداث التي بَدَأتْ مع بدايةِ الألفيةِ ، كما أنَّ خُُفُوتَ الأصواتِ التي نادتْ بَِرفْعِ يدِ الوصَايةِ الأمريكيةِ عَن الأنظمةِ الاستبداديةِ والتي كانتْ سببًا مباشرًا في تفشي أعمالِ العنفِ ضدَ المصالح الأمريكية في العالم ،يعدُّ مؤشرًا لركودِ الذهنية الأمريكية وعجزها عن التعامل بجديةٍ مع الحلول الإبداعيةِ للأزمة ، هنا يبدو بجلاءٍ أنَّ باراك أُوْبَامَا ما هو إلا تكريسٌ لفكرةِ الحل المجاني ، الذي يقومُ على الترويج للبلاغةِ الإنشائية التي تداعبُ العواطفَ ، عوضًا عن التغيير الحقيقي المطلوب بإلحاح والذي يبدو مكلفًا من وجهةِ نظر صُنَّاع القرارِ الأمريكي ، وفِيمَا يبدو أنَّ الوقتَ يمثلُ عاملا ًهامًا في استكشافِ الكثيرِ من الحقائق المتعلقةِ بزيارة أُوْبَامَا،طالما ظلتْ المُبَاحَثَاتُ الرئاسيةُِ المصريةُِ سراً كَهَنُوتيًا لا يجرؤُ أحدٌ على الخوض فيه ، لَكِنَّ المؤكدَ أنَّ الإدارةَ الأمريكيةَ كَعَادتها قَدْ تلقتْ الثَّمنَ سلفًا ، إذْ أنَّها لا تقايضُ على شيءٍ أصبحَ في حوزتِها بالفعل ،حَسْبَ تَعْبيرِ هنري كسينجر للرَّئيسِ السَّادات عَشِيَّةَ طردِ الخبراءِ السوفييت ، ومِمَّا يدعو للدهْشَة في هذا الصددِ هي المقدرةُ الفائقةُ للنظام المصري على ابتكارِ ما يمكنُ التنازلُ عنه من أجل تحقيقِِ مَصَالحٍِ تتعلقُ بالبقاءِ لأطول فترةٍ في حُكمِ البلاد ، وتبقى العلاقاتُ الأمريكيةُ الإسرائيليةُ كما هي خطًا أحمرَ لا يجوزُ المَسَاسُ به مع التأكيد ِعلى الأساطِيرِ المُؤسسةِ للسياسات ِالإسْرائيليةِ ، ووصْم ِكلِ مَنْ يعتقدُ خِلافَ ذلك بالجهلِ والتخلفِ العقلي إذا أمْكنَ،ولا مانعَ من الحديثِ عن تحفظٍ أمريكي بشأن التوسعِ في بناءِ المستوطنات وكذلكَ الحديثِ عن الأماني الأمريكية الطامحة إلى حل الدولتين ،دون أي التزاماتٍ بالسعي الجادِّ للوصول لهذا الحل ، ويبدو الترويجُ لأُوْبَامَا السلعةِ في سوق البوار العربي ، عملاً يرسخُ للصورةِ الذهنيةِ القديمةِ للتاجر المخادع الذي يحاولُ إقناع زبائنه بشراءِ سلعةٍ يبدو احتياجهم لها محلُ شكٍ كبير ، فيما بَدَتْ نفسُ السلعةِ ذات دلالةٍ ترويجيةٍ توجه بشكل مباشر لحساب الحاجة الملحة لِتقاعدِ الأب ،وتسليم مقاليدِ الحُكم للابن الذي يَحْكمُ ويتحكمُ فعليًا منذُ سنواتٍ ، عِندَمَا تناولَ عددٌ من الكتَّاب زيارةَ أُوْبَامَا وخِطابَه بالتحليل الموضوعي ،كمحاولةٍ جادة للبحث عن آفاق التغيير المُحْتَمَلة في سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة ، كَانتْ المُحَصِلةُ عِندَ الكثيرِ مِنْهُم هي صِفر ، خََرَجَ علينا بَوَاكِي أُوْبَامَا يُدَافِعُونَ عنه بالحق وبالباطل ، مِمَّا آثارَ العجبَ وطرحَ الكثيرَ من عَلامَات الاستفهام ، وخُصُوصًا أنَّ وطناً بِأسرِهِ ..... لا بَوَاكِي له .

الأحد، 24 مايو 2009

تجربة الوسط

تَعَجَّبَ عَدَدٌ مِنَ المُهْتمَّينَ بِالشَّأنِ العَام مِنَ الخُطْوَةِ التي أقْدَمَ عليها مُؤسِسُو حِزْبِ الوَسَطِ ، بالتَّقَدُّمِ بِأوراقِ الحِزْبِ للَّجْنَةِ الأحْزَابِ بِمجلسِ الشُّورى للمَرةِ الرَّابعةِ ، وكَانَ مَثَارُ العَجَبِ في الأمْر ِهو كيفَ يتقدمُ مُؤسِسُو الحِزْبِ بطلبِ الحصولِ على شرعيةِ مُمَارسةِ العَمَلِ السِّياسِي من نظامٍ يعلمُ القاصي والدَّاني أنَّه فاقدٌ لأي شرعيةٍ ، والحقيقةُ وكَمَا هو معلومٌ أنَّه لا يختلفُ اثنان مِنَ المنصفينَ من أبناءِ هذه الأمةِ أنَّ الوسطَ جديرٌ بالحُصُولِ على الرُّخْصَةِ التي تؤهله للممارسةِ السِّيَاسِية الكاملةِ لكافةِ الأنشطة الحزبية ، وكَمَا هو معلومٌ فقد تعاملَ الحزبُ وقياداتُه ومنذُ يوم السادس من يناير (كانون الثاني)2007 مع بيان مجلس الدولة بِكلِ موضوعيةٍ ، وقدْ وضعَ المؤسسونَ نُصْبَ أعينِهم استيفاءَ جميع الشروطِ التي وردتْ في القانون المعدل لعام 2005 ، وكانَ تقريرُ هيئة مفوضي الدولة برئاسة المستشار فريد تناغو قد أقرَّّ بتميز الحِزبِ في برنامجه عَنْ كَافَّةِ الأحْزابِ القائمةِ ، ومِنْ ثمَّ فإنَّ التراجعَ عَنْ التَّقدمِ بالأوراقِ مع إمكانيةِ استيفاءِ هذه الشُّروط ،كان سيصبحُ بمثابةِ العودةِ إلى المربع رقم صِفر ، ومع إيمان مؤسسي الحِزْبِ أنَّ وجودَ حزبٍ سياسي يمثلُ تيار الوسطيةِ هو ضرورةٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ ، كما أنَّ الاستقراءَ الدقيقَ لواقع الأحزابِ السِّيَاسِيةِ المِصْرِيةِ يُعدُّ دافعاً إلى إحداث حالةٍ من التغيير على مستوى الرؤى والأفكار والممارسة الحزبية ، ولا أكونُ مغاليًا إذا قلتُ أنَّ التَّقَدُمَ بأوراق الحزب للمرة الرابعة كانَ فعلاً وطنيًا قُدِّم فيه العَامُ على الخاصِّ ، وكانَ القَصْدُ فيه مصلحةَ الوطنِ دونَ غيرها ، وقدْ ثَارتْ بعضُ التساؤلات حَوْلَ جدوى التقدم بالأوراق مع فرضية أن اللَّجنة المختصة ستبادرُ بالرفض ،وربما دونَ قراءةٍ متأنيةٍ لأوراق الحزب وبرنامجه ، ونحنُ هنا نُسلِّم ببعض الصِّحةِ لهذا الطرح ،ولكننا معنيون في المقام الأول بأخذ زمام المبادرة ، وفتح الطريق أمام فئة غير قليلة من المجتمع المصري ترى أنَّه لابدَّ من وجودِ الطريق الثَّالث الذي يلوذُ به المخلصونَ من أبناءِ هذا الوطن بعيداً عن التفريط والإفراط ، وأظنُّ أنَّ رؤيةَ الوسطِ قد تَبَلْورتْ في الآونةِ الأخيرةِ إزاءَ العديدِ من القضايا ، ومن أهمِها التناولُ الموضوعي لتاريخ مصرَ المعاصرِ - ما بعدَ ثورةِ يوليو- دونَ المغالاةِ في الانحيازِ لفترةٍ بعينها أو الغفرانِ التَّام لكل ما ارتُكبَ فيها من خطايا ، ومن ثمَّ إلصاق كل النقائصِ بالفترةِ التي أعقبتها أو سبقتها على حدٍ سواء ، تَبَلْورُ تلكَ الرؤيةِ حدا بالقائمينَ على الحِزبِ ممن أسْهَمُوا في وضع برنامجه ، إلى التخلص من التفكير الأحادي الذي يقومُ على الدجمائيةِ التي أوردتْ العديدَ من الأيدلوجيات مواردَ الضَّيَاع ،وقدْ حدثَ هذا في غير تغييبٍ للإطار العام الذي يحمي الفكرةَ الرَّئيسةَ ويصونها من التماهي في معتركِ الأفكار المتدافعةِ ، ومع ذلكَ فقدْ بَدَتْ الشَّجَاعةُ واضحةً في برنامج الحزبِ ، إذْ تمَّ من خلاله الإعلانَ عن رؤيةِ الحزب في قضايا شائكةٍ كالحريات الدينيةِ وولايةِ المرأةِ والأقباطِ ، والتي كان المبدأُ في التعامل معها هو مَبْدَأُ المُواطنةِ الذي يقومُ على أساس أنَّ المصريينَ جميعاً سواء أمامَ القانون لهم نفسُ الحقوقِ كما أنَّ عليهم نفسَ الواجبات ، ونحنُ إذْ نطمحُ إلى وجودٍ قانوني نَسْعى من خلاله إلى خدمةِ هذا الوطن وأبنائِه ، ندركُ أنَّ الأوضاعَ في وطننا العزيز قابلةٌ للتبدل بينِ عشيةٍ وضحاها ، عازمينَ على المضي قدمًا في طريقنا الذي بدأ قبلَ ثلاثةَ عشرَ عامًا ، مدركينَ أنَّ صوتَ العقلِ إذا علا لابد أنْ يُسْمَعَ ، وأنَّ البابَ الذي يُطْرقُ باستمرارٍ لابدَّ أنْ يُفْتَحَ ، وليسَ في ما نقولُ ونعملُ تعلقٌ بخيوطٍ واهنةٍ للأمل بقدرِ ما هو الشعورُ بالتفاؤلِ القائمِ على حبِّ هذا الوطنِ ، والإيمانِ بحقه في العيشِ الحرِّ الكريمِ . إنَّ التجاربَ السِّيَاسِية لَيْسَتْ حِكرًا على أصحابها ،بل هي جزء من سياقاتِ التاريخ الذي من خلالِه تتطورُ الأممُ ،ومن دروسه تعي الشعوبُ أدوارها حتى تؤثرُ في رسمِ مستقبل الوطن ، فَمَنْ يمَْلِكُ المصادرةَ على هذه التجاربِ ، ومن يتجرأُ على إيقافها في لحظة ٍتكونُ البلادُ فيها أحوجُ ما تكونُ للجهودِ المُخْلِصَةِ مِنْ كَافَّة أبْنَائِها .

مصر بين زيارتين


منذُ أيام ٍودَّعت مصرُ الرسمية ُرئيسَ الوزراءِ الصهيوني بنيامين نتنياهو بعدَ زيارة ٍاستمرت لعدةِ ساعات ٍالتقى خلالها الرئيسَ المصري وجرتْ المباحثاتُ فيما بينهما حولَ العلاقات ِالثنائية بينَ مصرَ ودولةِ الكيان الصهيوني ،مما أنتجَ تطابقاً في الرؤى ووجهاتِ النظر بخصوص ِ الخطرِ الإيراني الذي أصبحَ وشيكاً ، مما يلزمُ شركاءَ السلام بسرعةِ التحرك المبني على التنسيق الكامل ، والذي لا يقبلُ المفاجآت ، وهذه بالذات كانت أولى أمنيات الرئيس الأمريكي باراك أوباما حينَ سمعَ عن تطابق وجهة النظر الصهيونية ووجهات النظر لدى أطرافٍ عربيةٍ ( مصر والأردن ) حولَ الخطر الإيراني حيثُ قال أنَّه يرجو ألا تفاجئ إسرائيل العالمَ بضربةٍ استباقيةٍ موجهةٍ إلى إيران ، وبالطبع فإنَّ الولايات المتحدة لنْ تفاجأ بأي ضربات استباقية أو التحاقية إنْ جازَ التعبيرُ ، لأنَّه من الواضح أنَّ تنسيقاً ما يتمُ بشكلٍ مكثفٍ للإعدادِ لهذه الضربةِ بينَ إسرائيل والولايات المتحدة وأطرافٍ عربيةٍ ( مجموعة ما يسمى بدول الاعتدال ) و لا أشك للحظة أنَّ اجتماعات سرية قد عُقِدَتْ وجمعتْ مسئولينَ إسرائيليينَ ومسئولينَ رفيعي المستوي ينتمونَ إلى دولٍ نفطيةٍ تتطابقُ رؤيتها للخطرِ الإيراني مع وجهةِ النظر الصهيو أمريكية ، إذن نحنُ أمامَ حالةٍ من التفاهم التَّام بين عدةِ أطرافٍ ما كان لها أنْ تتفقَ بهذا الشكل بعيدًا عن دوافعَ أصيلةٍ تحركُ كلَ طرفٍ صوبَ بغيته ، فإذا كانتْ الأهدافُ الصهيونيةُ واضحةً لا لبسَ فيها ، وإنْ تعددت ما بينَ محاولةِ إجهاض المشروع النووي الإيراني ، ومن كونها تعتبرُ حرباً بالوكالة لصالح الولايات المتحدة والتي لمْ تعدْ مؤهلةً في الوقت الراهن لدخول حربٍ على جبهة جديدة بعد المستنقع العراقي ، كما تسعى إسرائيلُ لإضعاف إيران الداعم ِالأكبر لسوريا التي لا زالتْ تشكلُ رافدًا رئيساً لدعم المقاومة الفلسطينية ، ولا ننسى أنَّ الهزيمةَ المخجلةَ التي نالتها إسرائيلُ في حرب تموز 2006 على يد حزب الله كانت بدعم إيراني غيرَ محدودٍ ، ويبدو أنَّ الإدارةَ الأمريكيةَ لها مبرراتها أيضا فمن ناحيةٍ هي لا تريدُ أن تخلعَ قناعَها الجديدَ الآن ، غيرَ أنَّها ربما تكون قد أدركتْ حقيقةَ الدور الإيراني في العراق ،والذي كانَ سبباً مباشرًا في تردي الأوضاع ، وساهمَ في صنع جزءٍ كبيرٍ من المأزق الأمريكي هناك ، ولا شكَ أنَّ الأطراف العربية المشاركة في هذا التحالف لها أهدافـُها الخاصَّة جدًا ، فمصرُ تسعى من خلال هذا التنسيق إلى تقديم أوراق اعتمادها للإدارة الأمريكية الجديدة بشكل يختلف عن ذي قبل ، فهذه هي المرة الأولى التي لا يخجل فيها نظام الرئيس مبارك من تطابق رؤيته مع رؤية الكيان الصهيوني ، ومعنى ذلك أنَّ الحربَ على إيران ستكون مصر فيها طرفاً صريحًا ، وساعتها لن تضطرَ مصرُ لإجراءات مثلَ قطع التَّيَّار الكهربي عن مدن القناة لعبور القطع الحربية الأمريكية ، كما أنَّ مصرَ والتي كانت قد فجرتْ قضيةََ حزبِ الله في الوقت المناسب تماماً ، رغم أنَّ أعضاء التنظيم كان قد أعلن عن القبض عليهم في أواخر العام الماضي وقُبيلَ العدوان على غزة ، وأسدت إلى إسرائيل أجل الخدمات بهذا الإعلان – حسب الصحف الإسرائيلية- لابد أن هدفها كان واضحًا ،وإنْ لم يكن معلنًا ، فمع قربِ الاستحقاق الرئاسي القادم يتوجبُ على الرئيس مبارك أنْ يسارعَ بحسم مسألة التوريث ، والتي لنْ تُحْسَمَ إلا بالرضا الأمريكي الكامل ، وكانت الترتيبات قدْ تمتْ لزيارة الرئيس المصري للبيت الأبيض ، تلا ذلك الإعلانُ عن زيارة أوباما لمصرَ في الرابع من يونيو وتوجيهه خطاباً للعالمين العربي والإسلامي ، زعمَ البعضُ أنَّه سيكون من داخل الأزهر الشريف ، وقدْ ترجمَ المسئولونَ المصريونَ هذه الزيارة ترجمةً فوريةً ، أكدتْ أنَّ نظامَ الرئيس مبارك يحظى بدعم وتأييد الإدارة الأمريكية الجديدة ، وهذا الحكم وإنْ كان سابقاً لأوانه ، إلا أنَّ هناك من الدلائل ما يشيرُ إلى أنَّ النِّظامَ المصري - وفي أقل من مئة يوم- استطاعَ أنْ يُقْنِعَ الأمريكيين بضرورة بقائه كحارس أمين لحدود الدولةِ العبرية ، مع القيام بالدور ذاته في حصار المقاومة عبر إغلاق المنافذ ، وعبرَ الضغطِ المباشرِ على حركةِ حماس للقبول بما فرضته إسرائيل على السلطة ورئيسها المنتهية ولايته ، بينما سيمارسُ الكيانُ الصهيوني ابتزازه الدائمَ لجميع الأطرافِ ، معتمدًا على الدعم الأمريكي ، ومشروعيةِ نظامه الديمقراطي ، وسطَ دولٍ استبداديةٍ ترفض الديمقراطية و تراوح مابين تزوير إرادة ِالشعوبِ وآمالِ التوريث .

السبت، 2 مايو 2009

ماذا بعد ؟


في كثير ٍ من الأحيان يتصورُ البعضُ أنَّه ليسَ هناكَ ثِمَّة أملٌ في تحسن ِ الأوضاع ِالسياسيةِ والاقتصاديةِ في مصرَ ، في ظل ِ نهم ٍ غير طبيعي للنهبِ المنظم ِ والعشوائي الذي تمارسُهُ الطغمة ُ الحاكمة ُ في مصرَ ، ولعلَّ استقراءَ التاريخ ِ في هذا الظرفِ الراهن ِ يعدُّ ترفاً لدى الكثيرين ، إذْ أصبحَ الحديثُ عن سقوطِ هذه الطغمةِ أقربَ إلى الأماني منه إلى الآمال القابلةِ للتحقق ، هنا تصبحُ جميعُ الممارسات المناوئةِ لسياسات هذه الطغمةِ كالاعتصامات والإضرابات والاحتجاجات أقربَ إلى الطقوس ِ اليوميةِ العبثيةِ منها إلى الفعل ِالإيجابي الحقيقي ، يحدثُ ذلكَ في ظل استغراق ٍ تام ٍ من قبل أصحابِ الأقلام ِ الوطنيةِ في توصيف ِ الواقع ِالراهنِ ومدى ترديه ،دونَ اقتراح أيةِ حلول ٍ للخروج من هذا النفق ِ المظلم ِ ، مما يدعمُ رأي البعض في أنَّ كتابات هؤلاءِ أصبحت عملاً ارتزاقياً ليسَ إلا ، بينما يغيبُ الشعبُُ المصريُ عن دوره الفاعل منشغلاً بمعالجة أسبابِ الحياة التي جعلتها سياسات المتحكمين شبهَ مستحيلةٍ ، وللعجب أنَّ هذا الشعبَ الذي يفلحُ دائمًا وأبدًا في ابتكار أسبابِ لغيابهِ ونكوصهِ وسلبيتهِ ، يكونُ على استعدادٍ تام للحضور للمشاركةِ في جدل ٍ عقيم حولَ توافه الأحداثِ و سفاسفِ الأمور ، مما حدا بالبعض أنْ يلجأ للتحليل النفسي للشخصيةِ المصريةِ التي تستجيبُ عندما تكونُ الاستجابة غير مجديةٍ بينما تغيب عندما يكونُ الغيابُ جريمة ً ، ومن العجيبِ أيضا أنْ تسمعَ بين بعض أوساطِ المنشغلينَ بالشأن العام لآراءٍ تقول بقدرية التغيير ؛ مستشهدة بالأحداث العالميةِ الأخيرةِ كالأزمةِ الاقتصاديةِ أو صعودِ أوباما أو ظهور الأوبئةِ التي تهددُ وجودَ البشرية ،معولة ًعلى أنَّ التغيير يمكن أن يأتي بشكل قدري لا دخلَ للشعب الخانع فيه ، وكأنَّ ما حدثَ لم يكن نتيجة ً حتمية ً لممارسات بشريةٍ قصديةٍ ، حركتها دوافعُ ترومُ غاياتٍ وأهدافاً ، وليست عنْ طريق الصدفةِ المبرَّأةِ ، لا أشك أبدًا في أنَّ كثيرًا مما نعانيه من أزماتٍ كان بسبب الفرديةِ والأناماليةِ والانكفاءِ على الذات التي كرستْ لها كثيرٌ من الأفكارِ والنظريات والفلسفات التي ارتبطتْ ارتباطاً وثيقاً بالرأسمالية المتوحشة والنظرةِ الماديةِ المنغلقةِ لكثير من الأمور ، وربما تخلقُ هذه الأزمات الكونية إحساساً جديدًا لدى البشر ِ ينحو منحى مختلفاً في اتجاه العمل الجماعي ، ويؤصل للمفاهيمِ الراسخةِ المتعلقةِ بأهميةِ الانضواءِ تحتَ لواءٍ يعلنُ أهدافاً واضحةً ويسعى نحوَ الإصلاح بكل قوته ، إنَّ آفة الفرديةِ تكمنُ في تأجيل التعامل مع المشكلات حتى آخر لحظةٍ ، بزعم أنَّها لم تحتكْ بعدُ بشكل مباشر مع المصلحة الشخصية ، وحينما تحينُ هذه اللحظة يكونُ الإنسانُ قدْ فقدَ قدرتَه على المواجهةِ ، ومن ثَمَّ فإنَّه لا يصبح قادرًا إلا على اختلاق مزيد من الأعذار التي تتيحُ له مزيدًا من السلبيةِ والتخاذل والقدرة غير المحدودة على تقديم التنازلات الواحد تلو الآخر ، إلى أنْ يصيرَ البقاءُ على قيد الحياة هو غايةُ المرادِ من رب العباد ، ولا شك أنَّ السلامَ الزائفَ مع النفس والذي تروجُ له الكثيرُ من الأبواق التي تعتمد الغيبيات منهجاً وحيداً للتعامل مع أحداث الواقع بقصد الإحالة والإرجاءِ لكل ما ينجمُ من ظواهر ومشكلات ، يمثل معادلاً غير موضوعي – في حقيقته – لكل ما يعانيه الإنسانُ المصري من ذل وهوان في كافة مناحي حياته . علينا إذن أن نترجم كثيرا من الأقوال إلى أفعال ، علينا أن نؤمن بالإنسان وبقدراته وطاقاته ، علينا أنْ نستلهمَ دروساً تفتح لنا آفاقاً أخرى تعتمدُ النضالَ ضد أعداء الحياة منهجاً راسخاً يقومُ على أساس ٍواضح ٍغير ملتبسٍ للعمل على إزاحةِ هذه الطغمة الباغية من على كواهلنا ، علينا أنْ ندعو للقطيعة التامة مع من ناصبوا المصريينَ العداءَ ، ونزلوا بقدر مصر إلى مستوى المفعول به لا الفاعل ، علينا أيضا أنْ نُلْقِمَ أفواه الكاذبينَ والمنافقينَ وحملةِ الأبواق والمباخر ، أحجاراً بحجم الهرم الأكبر ، علينا أن نقول للداعين إلى إرجاء الحساب إلى يوم الدين كفاكم كذبا على الله ، وأخيرا علينا أنْ نكونَ مستعدينَ لتقديم التضحيات ،لأن إزاحة الظالمين والمستبدين والطغاة لم تحدث في أي مكانٍ في العالم وعبرَ التاريخ الإنساني كلِه دونَ تقديم تضحياتٍ هائلةٍ ، إنَّ السعيَ الحثيثَ نحو الهدفِ أفضل من المراوحة ، وإلا فإن القادم أسوأ بكثير مما يظنُ أحدٌ .

الاثنين، 23 مارس 2009

رجماً بالغيب


يبدو أن أمانة التثقيف بالحزب الوطني الديمقراطي قد ارتأت أن تدخل ضمن برنامجها التثقيفي لأعضاء الحزب دورات تدريبية حتى يصبحوا مؤهلين للقيام بأعمال تتعلق بقراءة الطالع والرجم بالغيب ، ويبدو أيضا أن هذه الدورات التدريبية قد أجريت بشكل لا يفتقر إلى الكفاءة –على غير العادة – وكان من نتيجة ذلك أن هذه الدورات قد آتت أكلها وأثمرت ثمرا يانعا و ظهرت بشائره بشكل جلي على بعض أعضاء الحزب ، وكان ممن نال النصيب الوافر من نتاج هذا العمل هو السيد أمين التثقيف والتدريب بالحزب ، ويبدو أن أمارات نبوغه حدت بالمسئولين في الحزب إلى سرعة إرساله إلى الولايات المتحدة الأمريكية موكلة له عدة مهام من بينها التمهيد للزيارة المزمعة للرئيس المصري إلى واشنطن ، ومحاولة مد جسور التواصل مع الإدارة الأمريكية الجديدة ، ولابد أن برنامج الزيارة قد اشتمل على لقاءات هامة ومباحثات خطيرة حدت بالرجل ألا ينتظر العودة حتى يصرح بالنتائج التي توصل إليها بعد جهود مضنية بذلها سيادته في إقناع المسئولين الأمريكيين بديمقراطية النظام المصري ،وحرصه الدءوب على إرساء دعائم الحرية واحترام حقوق الإنسان ، ومن الواضح أن المسئولين الأمريكيين قد وقعوا أسرى لسحر الخطاب السياسي الذي استخدمه السيد أمين التثقيف ،والذي أبرز فيه كل مواهبه في الحجة والإقناع ،حتى أنه ليخيل إليَّ أني رأيت الدموع تتلألأ في عيني عضو الكونجرس الأمريكي((فرانك وولف)) الذي دأب منذ فترة على تقديم مشروعات قرارات اتسمت بالعداء لنظام الرئيس مبارك ، وكأني به أيضا وقد اختلى بنفسه في إحدى ردهات الكونجرس مكفكفا دمعه ، مؤنبا لنفسه على ما اكتسبت يداه من أفعال العداء تجاه نظام هو في الحقيقة راعي الديمقراطية والإصلاح في المنطقة العربية والشرق الأوسط ، بعد أن كشف له السيد أمين التثقيف الحقيقة جلية ناصعة ، بعد هذه الجهود المحمــــودة رأى د. كمال أن الوقت قد آن لاستخدام القدرات الخاصة بقراءة الطالع والرجم بالغيب ، فأعمل الرجل عقله فيما سمع ورأى خلال زيارته ، فاستقر في ضميره أنه حقق النجاح كاملا فيما ذهب إليه ، واجتاحته موجة من التفاؤل هائلة ،فخرج على وسائل الإعلام في زينته وصرح بأن الحملة التي تشنها بعض المنظمات والأفراد على مصر في واشنطن قد فشلت فشلا تاما ، ووصف الرجل هؤلاء بأنهم جوقة من المنتفعين الذين حققوا مكاسب شخصية في ظل السياسة الخاطئة التي كانت الإدارة السابقة تنتهجها كما وصف محاولات هذه المنظمات بأنها يائسة وعقيمة ... ويبدو أن الرجل قد استبدت به النشوة فوقع رغما عنه في المحظور ظنا منه أن تغير الإدارات في الولايات المتحدة يمكن أن يؤدي إلى تغيير السياسات بشكل جذري ،وكم كان الرجل غير موفق حين وصف سياسات الإدارة الأمريكية في عهد بوش بالخاطئة وهو اجتراء ولا شك لا تقبل به الإدارة الحالية التي لم يبد منها إلى الآن اختلاف يذكر عن سياسات الإدارة السابقة ، ولا شك أيضا أن حكمه على محاولات تلك المنظمات بالفشل واليأس والعقم البات والنهائي هو من ثمار دورات قراءة الطالع التي أشرنا إليها سلفا ، وأضاف أن تكتل هذه المنظمات والأفراد وراء خطاب قدموه لأوباما يدعونه فيه إلى تغيير نهجه في قضية نشر الديمقراطية والإصلاح في الشرق الأوسط في مستهل توليه الرئاسة بمثابة النفس الأخير لدى هذه المجموعات لمحاولة تغيير توجهات هذه الإدارة ..... ومن العجيب أن يتكلم السيد أمين التثقيف بكل هذه الثقة والأمر يتعلق بمحاولات مجموعات مختلفة التوجهات تعمل على تغيير السياسات الأمريكية تجاه الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط ، فهل أبلغوا سيادته بشكل شخصي أن الخطاب الموجه لأوباما هو آخر المطاف ، وهل أبلغوه أيضا أنهم سيدخلون الثلاجة لمدة أربعة سنوات قادمة فور إرسال الخطاب ، أم أن هذا الكلام كان نتاج جلسة مطولة لاستقراء الغيب قضاها د. كمال مع أعضاء الوفد المنافق لسيادته وآخرين ... ولا يمكن بحال أن ينتهي كلام من هذا النوع بغير توجيه عدة نصائح للإدارة الجديدة التي دعاها الأمين إلى انتهاج سياسة الحوافز الإيجابية بعد أن أخفقت الإدارة السابقة في تطبيق أسلوب العقوبات والمشروطيات ،وأوضح أن هذه الحوافز تتمثل في الإشادة المستحقة بجهود الإصلاح الإيجابية وعدم اللجوء إلى أي نوع من المشروطيات وتشجيع وتنمية العلاقات التجارية .......... وما كان لخفة ظل الرجل أن تختفي لأكثر من هذا ، لولا شغفه الواضح بالمشارط والذي يؤكد أمنية قديمة لديه أن يكون جراحا ، وليس من الغريب أن يدعو الرجل واشنطن لانتهاج سياسة الحوافز ، فالرجل مهما بلغ شأنه لا ينسى أنه موظف لدى الدولة يحب الحافز ويهيم عشقا بالعلاوة ،ولكن الغريب أن ينسى الرجل أبسط قواعد التعامل بين الكيانات والأفراد وهي أن من يملك الثواب يملك العقاب أيضا .. هؤلاء هم رجال النظام وهذا هو منطقهم ،وهذا هو مستوى تفكيرهم .... بالله عليكم ألا يستحقون الرثاء .

الثلاثاء، 3 مارس 2009

من الدولة الراعية إلى الدولة الجابية


تمر الدول بأطوار متعددة تتراوح ما بين القوة والضعف ، ويمكن رصد حالة الدولة المصرية عبر السنوات الخمسين الماضية ، وكيف تحولت من دور الدولة الراعية التي تقوم بدورها تجاه مواطنيها من منطلق ما تبنته من سياسات تعتمد المبادئ الاشتراكية ، إلى دور الدولة الجابية التي لا هم لها إلا جمع الأموال مستخدمة في ذلك كل أشكال النهب المنظم والمقنن بل والعشوائي أيضا في أحيان كثيرة ، في غياب سياسات واضحة المعالم ،تستورد من كل ما هو قائم من النظم الاقتصادية أسوأ ما فيها ، حتى أنه قد يخيل للبعض أن النظام ينهي المرحلة بنفسه في أكبر عمليات النهب الممنهج في تاريخ مصر ، وأظن أن مصر عبر تاريخها قد لعبت أدوارا عديدة يمكن القول أنها تحركت فيها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والعكس ،وكانت هذه الأدوار تقوم في بعضها على الادعاء تارة وعلى الإيمان بالدور الرائد وانطلاقا من تحمل المسئولية تارة أخرى ، والواضح أن هناك من المؤشرات ما يؤكد على حقيقة أن مصر كلما اضطلعت بدورها تجاه أمتها العربية ودورها الإقليمي ،كلما كانت في طور الدولة الراعية بالنسبة لأبنائها ،وأنها كلما انكفأت على ذاتها متخلية عن مسئوليتها تجاه عروبتها كلما دخلت في طور الدولة الجابية ،ما يؤكد هذا ما حدث بعد حرب العبور ، والتي قيل وقتها أنها آخر الحروب ، وقتها ردد الكثيرون أنه قد آن لمصر أن تعرف الرخاء والسلام الذي تنعم به غيرها من الدول العربية غير وثيقة الصلة بالصراع ، ومنذ أن قيل هذا الكلام ومصر من سيئ إلى أسوأ ، فبدءًا من سياسات الانفتاح الاقتصادي التي انتهجتها مصر في السبعينات وأدت إلى إحداث تغيرات خطيرة في بنية المجتمع المصري ، وما ترتب على هذه السياسات أيضا من سيادة ثقافة الاستهلاك ، وتراجع قيم بعينها كاحترام العمل ودعم القوى المنتجة في المجتمع ،كما تزامن ذلك مع شيوع الروح الانهزامية وضياع الانتماء بين فئات المجتمع ،وخاصة الشباب ،والذي أدى فيما بعد إلى مغادرة أعداد كبيرة من الشباب أرض الوطن ؛ باحثين عن تحقيق الحلم في دول النفط أو الدول الأوربية ، وما ترتب على ذلك من استلهام ثقافات مغايرة زادت فيما بعد من تشرذم المجتمع ، وانقسامه على ذاته ، ومن خلال رصد هذه الظواهر نستطيع أن نخلص إلى أن الأزمة التي يعانيها المجتمع المصري ترجع إلى ما يمكن تسميته بالاغتراب عن الهوية المصرية ، فحين تتراجع قيم الثقافة الوطنية ، فإنها تفسح المجال للفساد بكل أشكاله ، وكما هو معلوم فإن الفساد إذا ساد – كما هو حادث الآن- فإن هدم الثوابت الوطنية يصبح من أهم دعائم بقائه واستمرار وجوده ، إذ يصبح كل شيء خاضع لقانون السوق ، حيث يتم تسليع كل شيء ، وتشيئ الإنسان ذاته ، وإذا نظرنا إلى كل هذه المتغيرات سنجد أنه ربما لا يكون فيما سبق أي جديد إذ أن الدول تمر بمثل هذه الفترات على مر تاريخها ،وتستطيع من خلال الإصلاح والتعديل أن تتجاوز مراحل الضعف ،لتبدأ من جديد ،لكن هذه التفسيرات ربما لا تصبح دقيقة بالنسبة لمصر ،إذ وضعنا في الاعتبار أن مصر بكاملها قد انسحبت عن عمد من أهم أدوارها في الخارج (ريادة الأمة العربية وقيادتها )وفي الداخل التخلي عن دور الدولة الراعية انتقالا إلى دور الدولة الجابية ،بل والناهبة في أحيان كثيرة ،عندما نرى جميعا أن كل هذا يحدث لصالح أفراد بعينهم ربما لا يتعدون العشرات ،لا بد أن يستقر في وعينا جميعا أن ما يحدث لمصر هو شكل من أشكال الاستلاب وليس شكلا من أشكال الحكم الشمولي أو الديكتاتورية لأننا نعلم جميعا أن الأنظمة الشمولية كانت تتمسك دائما بأدوار الدولة الراعية ، بينما في مصر تقوم الأمور على أشياء أخرى كالإهدار والإفقار والإمراض والإرهاب وهذا هو شأن المستخرب الذي تنشد الأمة بأسرها خلاصها في نهايته ..... فمتى ؟

الخميس، 19 فبراير 2009

قراءة في خطاب السيد جمال مبارك

فِيْ لِقَائهِ مَعَ شَبَابِ الجَامِعَاتِ بالمنصورةِ صرَّحَ السيد جمال مبارك بعدةِ تصريحاتٍ رأيتُ أنَّها تستحقُ الدراسةَ والتحليلَ ليسَ لما لها من أهميةٍ بقدر ما تُفْصِحُ عنه من ابتعادِ الرجلِ عن الواقع ولجوئِه إلى استخدام الكثيرِ من التعبيرات ِالتي لم تَعُد تنتمي إلى واقِعنَا المُعَاصِرِ ، وكنتُ قَدْ انتويتُ أنْ أكتبُ مقالاً تحليليًا لخطابِ السيد جمال مبارك مراعياً فيه الموضوعيةَ ،والبعدَ عن التهكمِ والسخريةِ ، لكنني لم أستطعْ أنْ أمنعَ نفسي من الضَّحِك وأنا أطالعُ خطابَ سيادتِه ، غيرَ أنَّ النيةَ الصَّادقةَ في التحليل الموضوعي كانتْ لها الغلبةُ في النهايةِ ، وأستطيعُ أن أزعمَ أنَّ الخطابَ كان غير ذي موضوع ،إذْ اتكأ على ردةِ الفعل التي تخلو من الكياسةِ والتي قابلَ بها المسئولونَ المصريونَ ما كاله الكثيرون للنظام المصري من اتهاماتًٍ خطيرةٍ بشأن الحربِ الصهيونيةِ الأخيرةِ على غزةَ ، ومن المعروفِ للكافةِ أنَّ الرؤيةَ السياسيةَ الواضحةَ إذا غابتْ فإنَّ البعضَ يَعْمَدُ إلى الدفاعِ غيرَ المنظمِ عن ممارساتٍ ،هو نفسُه لا يحملُ قناعةً تامةً بها ، وفي حديثه عن الأمن القومي أوضحَ سيادتَه أنَّ الأمنَ القومي كلمةٌ كبيرةٌ ،وكل شخصٍ يستخدمُهَا وفْقَ ما يريدُ وأنَّه يعتقدُ أنَّ نقطةَ البدايةِ في أي أمن قومي هي اتباعُ سياسةٍ وآليات تُمَكِنُ من الحِفاظِ علي الاستقلالِ وحمايةِ الأراضي والحدودِ ، ولكم كنت أودُّ من السيد جمال أنْ يُتْحِفَنا بتعريفٍ جديدٍ للأمن القومي ، حتى نستطيعَ بعد ذلك أنْ نرصدَ كيف يحافظُ نظامُ والدِه عليه ،لَكنَّ الرجلَ خيَّب فيه رجاءنا – كعادته- وقفزَ فوقَ حاجزِ التعريفِ ، إلى السياساتِ والآلياتِ ، وأنا في هذه النقطةِ بالذات ألتمسُ له كلَ العذرِ لكونه رجلَ السياساتِ الأولِ في البلادِ ، وبوصفِه كذلكَ أحد الذينَ لا يتوقفونَ كثيرًا عندَ هذه المسائل الشكليةِ ، لكونهم غارقينَ حتى الآذان في النواحي العمليةِ والتنفيذيةِ ، والحقيقة أنَّ مفهومَ الأمنِ القومي الذي يَدْعُونَا إليه ،هو مفهومٌ من الاتساع بمكان ،إذ أنَّ السياساتِ والآلياتِ هي من الأمورِ الاختلافيةِ التي قلمَا يُتَّفقُ عليها ،مِنْ هذا المنطلق لا نستطيعُ أن نناقشّ السيد جمال مبارك في أمورٍ كاختراق المجالِ الجوي المصري من قبل ِالصهاينةِ ، ولا في مقتل ثمانيةٍ وخمسينَ مصريًا على أيدي الصهاينة منذُ إبرام المعاهدةِ ، ولا كيفَ أصبحَ إطلاقُ ((شاليط)) على رأس الأولوياتِ المصريةِ ، فالأمرُ من وجهةِ نظره- كما فهمنا- يتعلق في المقام الأول بالسياسة والآليات لا بالسيادة واحترام الاتفاقيات . وعندما تحدثَ عن الموقف المصري الذي ادَّعَى البعضُ أنَّه اهتزَّ بشدةٍ بعدَ أحداثِ غزةَ قالَ إنَّ مصرَ لها مصداقيةٌ كبيرةٌ في العالم ، وتحظي بالثقةِ في دول العالم باتساعها ، وأغلب الظَّن أنَّ السيد جمال كانّ يقصدُ دولةَ الكيان الصهيوني التي شكرَ مواطنُوها نظامَ أبيه عبرَ شاشات التلفزة وفي جميع وسائل الإعلام ، وأنا شخصيًا لا أجدُ أدنى ضررٍ في أن يتحدثَ السيد جمال عن مصداقية مصرَ وثقةِ العالم فيها ،فهذا حديثٌ يُسْعدنا جميعًا ، لكن كل الضرر قد يأتي من هذا الخطاب الذي يتسمُ بالثقةِ المفرطةِ والتعميم الذي يخالفُ أبسط أسس الخطاب الإعلامي ، فأنا شخصيًا أعرفُ دولاً وشعوبًا لا يتمتعُ النظامُ المصريُ لديها بأي مصداقيةٍ ،بل وأكاد أجزمُ أنَّ ثقتها في نظام مبارك بلغتْ الصفرَ المئوي بجدارةٍ واستحقاق ، فعن أي عالمٍ يتحدثُ السيد جمال ، كذلك فإنَّ الدورَ المحوري المصري الذي ألمحَ إليه لم يعدْ خافياً على أحدٍ ،فأي دورٍ أكبرُ من إمدادِ الكيان الصهيوني بالبترول والغاز ، وإمدادِ جيشه بالوجباتِ السريعةِ على جبهات القتال حسب ما نشرته إحدى الصحفِ المصريةِ شبه المستقلة ،مع إحكام الحصار على غزةَ وإغلاق معبر رفح أمامَ المساعدات والأطباء وأعضاءِ المنظمات الحقوقية ، وبالمخالفة الصريحة لجميع الأعرافِ والمواثيق الدوليةِ ، كان أولى بالسيد جمال مبارك أنْ يبتعدَ بخطابه عن هذه المناطق الشَّائكةِ ، والتي خسر فيها أكثرَ مما كسبَ بكثير ، لدرجةِ أنَّه عمدَ إلى تخوين من اختلفَ مع نظام والدِه أثناءَ الأزمة ،واتهمهم أنَّهم ساروا في ركاب حملةٍ منظمةٍ هدفها النيلُ من مصرَ ، وأنَّهم ما فعلوا ذلك إلا للحصول على مكاسبَ سياسيةٍ ، على حساب قضايا استراتيجية – على حد زعمه – والحقيقة أنَّ هذه الجملة بالذات هي عينُ الفكاهةِ في الخطاب ، إذْ أنََّها تطلُ علينا وقدْ ارتدتْ أبهى حلل الحكمةِ والرصانةِ اللغويةِ ، وفيها من الإحالةِ إلى عالم الغيب الكثيرَ والكثيرَ ، وقدْ تُسْرعُ بك جملةٌ فارقةٌ كهذه إلى الوصول إلى مراميك في ما تطمحُ في إيصَاله إلى سامعيك ،هذا إذا كنتَ خالصَ العزم ،صادقَ النية والتوجه كالسيد جمال ، هذه الجملةُ جمع فيها الرجلُ كلَ مناوئيه ، وأسكنهم بضربةٍ واحدةٍ في خندق العمالةِ ، والتربح على حساب قضايا الوطن الاستراتيجية ، التي يراها الرجلُ بعين بصيرته التي لا تخطئ ، وأظن أنَّ هذا ما جعله يدللُ في المسألة الإيرانية على اتساع هوة الخلاف بين نظام والده وإيران بقوله ((إنَّ إيران تختلفُ معنا‏,‏ وترددُ ما يردده البعضُ بأنَّه ما كان لمصرَ أن تتوجه نحو السلام وأنَّ هذا كانَ خطأً استراتيجيًا وأنَّه كان علي مصرَ الاستمرارُ‏,‏ وهذا موقفُهم وهو موقفٌ يتناقض مع الموقف المصري تجاهَ العديدِ من القضايا‏ )) وقدْ نختلفُ أو نتفقُ حولَ حقيقةِ الدور الإيراني في المنطقةِ ، وقدْ نختلفُ أيضًا حولَ ما تريده إيران من النِّظام المصري تحديدًا ، لكن ما لا يمكنُ تجاهله في خطاب السيد جمال مبارك ،هو هذا التباينُ الواضحُ في لغةِ الخطاب التي تكتسب طابعًا فريدًا مِنَ التعميم والإجمال حينما تكونُ الحَاجةُ ملحةٌ إلى التفصيل والدقةِ ، بينما تنحو اللغةُ ذاتُها منحى ً شديدَ التطرفِ والاستعلاءِ إذا تَعَلَّقَ الأمرُ بدول بعينها ، وهذا مِمَّا يقدحُ في الخطابِ ذاته ،وفي ما قام عليه من ادعاءِ مخاصمته للتشددِ ،بارتداءِ ثوبٍ بالٍ من العقلانية المدعاة وهو ثوب يفضحُ أكثرَ بكثيرٍ مِمَّا يسترُ .

الثلاثاء، 13 يناير 2009

ماذا تريد إسرائيل من الحرب ؟


الآن وبعد مرور قرابة الأسابيع الثلاث من الحرب الصهيونية على غزة هل يمكن لنا أن نحاول فهم دوافع هذه الحرب غير المسبوقة ومراميها وهل كان الهدف الوحيد منها هو القضاء على حماس ؟ أم أن هناك دوافع أخرى وأسبابا خفية دفعت آلة الحرب الصهيونية للتحرك بهذا الشكل ؟ هناك أقاويل كثيرة داخل إسرائيل تتردد حول أن إيهود أولمرت هو المعني بمواصلة القتال لكي يتم تأجيل موعد الانتخابات ، ومن ثم دعم موقف حكومته ،بينما يرى آخرون أن الجنرال يواف جالانط قائد المنطقة الجنوبية هو الذي يدفع باتجاه التصعيد والشروع بالمرحلة الثالثة من خطته العسكرية التي عكف على إعدادها لثلاث سنوات، وفقاً لمصادر إسرائيلية،كما اعتبر هو نفسهً أن عدم اتخاذ مثل هذا القرار(قرار التصعيد) هو خطأ تاريخي. ، كما صرح شمعون بيريز في كلمة ألقاها أمام جنود احتياط في قاعدة التدريبات العسكرية في تسئيليم، أن الدول العربية ترغب في أن تحقق إسرائيل النصر في قطاع غزة، ليس محبة لها بل لأنها لا ترغب في أن يسيطر 35 مليون إيراني على 350 مليون عربي. ويمكن القول أن دوافع الحرب على غزة غير واضحة حتى داخل إسرائيل نفسها ، وليس القضاء على حماس ، لما تثيره من مخاوف لدى إسرائيل و بعض دول الجوار العربي ، هو الهدف الوحيد ،وإن كان وحده هو الهدف المعلن ،كما أن الحرب على غزة وإن بدت حربا إقليمية تسعى فيها إسرائيل لإضعاف المقاومة ،إلا أن شواهد كثيرة تؤكد ضلوع أطراف عربية ودولية فيها ، ويرى البعض أن إنهاء المقاومة المسلحة في فلسطين كان على جدول أعمال إدارة بوش ، وأنه تأخر بسبب ما تواجهه القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان ،وما أحدثته الأزمة المالية العالمية من تداعيات أثرت بشكل مباشر على الاقتصاد الأمريكي ،وربما تمثل الحرب على غزة شكلا من أشكال الاستجابة الفورية لإدارة بوش التي تسعى للخروج بشكل يحفظ لها بعض ماء الوجه ، وربما كانت استجابة غير مباشرة لأطراف عربية ترى في وجود حماس خطرا يهدد أنظمتها ويسعى جاهدا لتصدير الثورة إليها ، مما يطرح علينا سؤالا هاما ،هل الحرب على غزة هي حرب بالوكالة لصالح أطراف أخرى امتنعت عن المشاركة الفعلية ؛ لأسباب مختلفة ؟ أم أنها حرب تهدف إلى جر أطراف بعينها كإيران مثلا لاتخاذ مواقف قد تعجل بتوجه ضربة شديدة لها ، المؤكد أن تلك الحرب قد توفرت لها العديد من الظروف ؛ لتكون الأعنف في تاريخ دولة الكيان الصهيوني ، فمن جانب هي بمثابة الفعل الأشنع الذي لا يقبل المزايدة من قبل اليمين الإسرائيلي ،ومن جانب آخر فإنها تمثل محاولة جادة لإعادة ترتيب الأوضاع على الأرض قبيل جولة ماراثونية جديدة لمباحثات السلام برعاية الإدارة الأمريكية الجديدة ، كما أنها – أي الحرب – تكون قد مهدت لأدوار جديدة تقوم بها دول الاعتدال العربي ، ستكون أكثر وضوحا في التعامل مع القضية الفلسطينية في غياب دور المقاومة ؛ تكريسا لدور السلطة الفلسطينية الطامح لإقامة الدولة الفلسطينية وفق الشروط الأمريكية والإملاءات الإسرائيلية ، والمؤكد أن أيا من الأهداف السابقة لن يتم تحقيقه على المدى القريب ، مما يؤكد أن الحرب على غزة هي حرب تكتيكية في المقام الأول ، تسعى إلى إحداث أكبر قدر من الإرباك في صفوف المقاومة ، دعما لإعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع ، وتمهيدا لتنفيذ مخططات تجفيف منابع المقاومة فيه ، واللافت للنظر أن كثيرا من تقديرات الإسرائيليين غير دقيقة ، وربما تؤدي إلى شيء قريب مما حدث في صيف 2006 م والفارق أن المقاومة اللبنانية كانت قد حصلت على دعم غير محدود من إيران وسورية ،بينما تلقى المقاومة الفلسطينية أشد العنت بسبب إحكام الحصار ،وإغلاق المعابر ، غير أن ما ستسفر عنه الأيام القادمة سيعلن وبشكل واضح فشل هذه الحرب الإجرامية في تحقيق أهدافها ، وإنَّا لمنتظرون .