الاثنين، 23 مارس 2009

رجماً بالغيب


يبدو أن أمانة التثقيف بالحزب الوطني الديمقراطي قد ارتأت أن تدخل ضمن برنامجها التثقيفي لأعضاء الحزب دورات تدريبية حتى يصبحوا مؤهلين للقيام بأعمال تتعلق بقراءة الطالع والرجم بالغيب ، ويبدو أيضا أن هذه الدورات التدريبية قد أجريت بشكل لا يفتقر إلى الكفاءة –على غير العادة – وكان من نتيجة ذلك أن هذه الدورات قد آتت أكلها وأثمرت ثمرا يانعا و ظهرت بشائره بشكل جلي على بعض أعضاء الحزب ، وكان ممن نال النصيب الوافر من نتاج هذا العمل هو السيد أمين التثقيف والتدريب بالحزب ، ويبدو أن أمارات نبوغه حدت بالمسئولين في الحزب إلى سرعة إرساله إلى الولايات المتحدة الأمريكية موكلة له عدة مهام من بينها التمهيد للزيارة المزمعة للرئيس المصري إلى واشنطن ، ومحاولة مد جسور التواصل مع الإدارة الأمريكية الجديدة ، ولابد أن برنامج الزيارة قد اشتمل على لقاءات هامة ومباحثات خطيرة حدت بالرجل ألا ينتظر العودة حتى يصرح بالنتائج التي توصل إليها بعد جهود مضنية بذلها سيادته في إقناع المسئولين الأمريكيين بديمقراطية النظام المصري ،وحرصه الدءوب على إرساء دعائم الحرية واحترام حقوق الإنسان ، ومن الواضح أن المسئولين الأمريكيين قد وقعوا أسرى لسحر الخطاب السياسي الذي استخدمه السيد أمين التثقيف ،والذي أبرز فيه كل مواهبه في الحجة والإقناع ،حتى أنه ليخيل إليَّ أني رأيت الدموع تتلألأ في عيني عضو الكونجرس الأمريكي((فرانك وولف)) الذي دأب منذ فترة على تقديم مشروعات قرارات اتسمت بالعداء لنظام الرئيس مبارك ، وكأني به أيضا وقد اختلى بنفسه في إحدى ردهات الكونجرس مكفكفا دمعه ، مؤنبا لنفسه على ما اكتسبت يداه من أفعال العداء تجاه نظام هو في الحقيقة راعي الديمقراطية والإصلاح في المنطقة العربية والشرق الأوسط ، بعد أن كشف له السيد أمين التثقيف الحقيقة جلية ناصعة ، بعد هذه الجهود المحمــــودة رأى د. كمال أن الوقت قد آن لاستخدام القدرات الخاصة بقراءة الطالع والرجم بالغيب ، فأعمل الرجل عقله فيما سمع ورأى خلال زيارته ، فاستقر في ضميره أنه حقق النجاح كاملا فيما ذهب إليه ، واجتاحته موجة من التفاؤل هائلة ،فخرج على وسائل الإعلام في زينته وصرح بأن الحملة التي تشنها بعض المنظمات والأفراد على مصر في واشنطن قد فشلت فشلا تاما ، ووصف الرجل هؤلاء بأنهم جوقة من المنتفعين الذين حققوا مكاسب شخصية في ظل السياسة الخاطئة التي كانت الإدارة السابقة تنتهجها كما وصف محاولات هذه المنظمات بأنها يائسة وعقيمة ... ويبدو أن الرجل قد استبدت به النشوة فوقع رغما عنه في المحظور ظنا منه أن تغير الإدارات في الولايات المتحدة يمكن أن يؤدي إلى تغيير السياسات بشكل جذري ،وكم كان الرجل غير موفق حين وصف سياسات الإدارة الأمريكية في عهد بوش بالخاطئة وهو اجتراء ولا شك لا تقبل به الإدارة الحالية التي لم يبد منها إلى الآن اختلاف يذكر عن سياسات الإدارة السابقة ، ولا شك أيضا أن حكمه على محاولات تلك المنظمات بالفشل واليأس والعقم البات والنهائي هو من ثمار دورات قراءة الطالع التي أشرنا إليها سلفا ، وأضاف أن تكتل هذه المنظمات والأفراد وراء خطاب قدموه لأوباما يدعونه فيه إلى تغيير نهجه في قضية نشر الديمقراطية والإصلاح في الشرق الأوسط في مستهل توليه الرئاسة بمثابة النفس الأخير لدى هذه المجموعات لمحاولة تغيير توجهات هذه الإدارة ..... ومن العجيب أن يتكلم السيد أمين التثقيف بكل هذه الثقة والأمر يتعلق بمحاولات مجموعات مختلفة التوجهات تعمل على تغيير السياسات الأمريكية تجاه الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط ، فهل أبلغوا سيادته بشكل شخصي أن الخطاب الموجه لأوباما هو آخر المطاف ، وهل أبلغوه أيضا أنهم سيدخلون الثلاجة لمدة أربعة سنوات قادمة فور إرسال الخطاب ، أم أن هذا الكلام كان نتاج جلسة مطولة لاستقراء الغيب قضاها د. كمال مع أعضاء الوفد المنافق لسيادته وآخرين ... ولا يمكن بحال أن ينتهي كلام من هذا النوع بغير توجيه عدة نصائح للإدارة الجديدة التي دعاها الأمين إلى انتهاج سياسة الحوافز الإيجابية بعد أن أخفقت الإدارة السابقة في تطبيق أسلوب العقوبات والمشروطيات ،وأوضح أن هذه الحوافز تتمثل في الإشادة المستحقة بجهود الإصلاح الإيجابية وعدم اللجوء إلى أي نوع من المشروطيات وتشجيع وتنمية العلاقات التجارية .......... وما كان لخفة ظل الرجل أن تختفي لأكثر من هذا ، لولا شغفه الواضح بالمشارط والذي يؤكد أمنية قديمة لديه أن يكون جراحا ، وليس من الغريب أن يدعو الرجل واشنطن لانتهاج سياسة الحوافز ، فالرجل مهما بلغ شأنه لا ينسى أنه موظف لدى الدولة يحب الحافز ويهيم عشقا بالعلاوة ،ولكن الغريب أن ينسى الرجل أبسط قواعد التعامل بين الكيانات والأفراد وهي أن من يملك الثواب يملك العقاب أيضا .. هؤلاء هم رجال النظام وهذا هو منطقهم ،وهذا هو مستوى تفكيرهم .... بالله عليكم ألا يستحقون الرثاء .

الثلاثاء، 3 مارس 2009

من الدولة الراعية إلى الدولة الجابية


تمر الدول بأطوار متعددة تتراوح ما بين القوة والضعف ، ويمكن رصد حالة الدولة المصرية عبر السنوات الخمسين الماضية ، وكيف تحولت من دور الدولة الراعية التي تقوم بدورها تجاه مواطنيها من منطلق ما تبنته من سياسات تعتمد المبادئ الاشتراكية ، إلى دور الدولة الجابية التي لا هم لها إلا جمع الأموال مستخدمة في ذلك كل أشكال النهب المنظم والمقنن بل والعشوائي أيضا في أحيان كثيرة ، في غياب سياسات واضحة المعالم ،تستورد من كل ما هو قائم من النظم الاقتصادية أسوأ ما فيها ، حتى أنه قد يخيل للبعض أن النظام ينهي المرحلة بنفسه في أكبر عمليات النهب الممنهج في تاريخ مصر ، وأظن أن مصر عبر تاريخها قد لعبت أدوارا عديدة يمكن القول أنها تحركت فيها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والعكس ،وكانت هذه الأدوار تقوم في بعضها على الادعاء تارة وعلى الإيمان بالدور الرائد وانطلاقا من تحمل المسئولية تارة أخرى ، والواضح أن هناك من المؤشرات ما يؤكد على حقيقة أن مصر كلما اضطلعت بدورها تجاه أمتها العربية ودورها الإقليمي ،كلما كانت في طور الدولة الراعية بالنسبة لأبنائها ،وأنها كلما انكفأت على ذاتها متخلية عن مسئوليتها تجاه عروبتها كلما دخلت في طور الدولة الجابية ،ما يؤكد هذا ما حدث بعد حرب العبور ، والتي قيل وقتها أنها آخر الحروب ، وقتها ردد الكثيرون أنه قد آن لمصر أن تعرف الرخاء والسلام الذي تنعم به غيرها من الدول العربية غير وثيقة الصلة بالصراع ، ومنذ أن قيل هذا الكلام ومصر من سيئ إلى أسوأ ، فبدءًا من سياسات الانفتاح الاقتصادي التي انتهجتها مصر في السبعينات وأدت إلى إحداث تغيرات خطيرة في بنية المجتمع المصري ، وما ترتب على هذه السياسات أيضا من سيادة ثقافة الاستهلاك ، وتراجع قيم بعينها كاحترام العمل ودعم القوى المنتجة في المجتمع ،كما تزامن ذلك مع شيوع الروح الانهزامية وضياع الانتماء بين فئات المجتمع ،وخاصة الشباب ،والذي أدى فيما بعد إلى مغادرة أعداد كبيرة من الشباب أرض الوطن ؛ باحثين عن تحقيق الحلم في دول النفط أو الدول الأوربية ، وما ترتب على ذلك من استلهام ثقافات مغايرة زادت فيما بعد من تشرذم المجتمع ، وانقسامه على ذاته ، ومن خلال رصد هذه الظواهر نستطيع أن نخلص إلى أن الأزمة التي يعانيها المجتمع المصري ترجع إلى ما يمكن تسميته بالاغتراب عن الهوية المصرية ، فحين تتراجع قيم الثقافة الوطنية ، فإنها تفسح المجال للفساد بكل أشكاله ، وكما هو معلوم فإن الفساد إذا ساد – كما هو حادث الآن- فإن هدم الثوابت الوطنية يصبح من أهم دعائم بقائه واستمرار وجوده ، إذ يصبح كل شيء خاضع لقانون السوق ، حيث يتم تسليع كل شيء ، وتشيئ الإنسان ذاته ، وإذا نظرنا إلى كل هذه المتغيرات سنجد أنه ربما لا يكون فيما سبق أي جديد إذ أن الدول تمر بمثل هذه الفترات على مر تاريخها ،وتستطيع من خلال الإصلاح والتعديل أن تتجاوز مراحل الضعف ،لتبدأ من جديد ،لكن هذه التفسيرات ربما لا تصبح دقيقة بالنسبة لمصر ،إذ وضعنا في الاعتبار أن مصر بكاملها قد انسحبت عن عمد من أهم أدوارها في الخارج (ريادة الأمة العربية وقيادتها )وفي الداخل التخلي عن دور الدولة الراعية انتقالا إلى دور الدولة الجابية ،بل والناهبة في أحيان كثيرة ،عندما نرى جميعا أن كل هذا يحدث لصالح أفراد بعينهم ربما لا يتعدون العشرات ،لا بد أن يستقر في وعينا جميعا أن ما يحدث لمصر هو شكل من أشكال الاستلاب وليس شكلا من أشكال الحكم الشمولي أو الديكتاتورية لأننا نعلم جميعا أن الأنظمة الشمولية كانت تتمسك دائما بأدوار الدولة الراعية ، بينما في مصر تقوم الأمور على أشياء أخرى كالإهدار والإفقار والإمراض والإرهاب وهذا هو شأن المستخرب الذي تنشد الأمة بأسرها خلاصها في نهايته ..... فمتى ؟