الخميس، 19 فبراير 2009

قراءة في خطاب السيد جمال مبارك

فِيْ لِقَائهِ مَعَ شَبَابِ الجَامِعَاتِ بالمنصورةِ صرَّحَ السيد جمال مبارك بعدةِ تصريحاتٍ رأيتُ أنَّها تستحقُ الدراسةَ والتحليلَ ليسَ لما لها من أهميةٍ بقدر ما تُفْصِحُ عنه من ابتعادِ الرجلِ عن الواقع ولجوئِه إلى استخدام الكثيرِ من التعبيرات ِالتي لم تَعُد تنتمي إلى واقِعنَا المُعَاصِرِ ، وكنتُ قَدْ انتويتُ أنْ أكتبُ مقالاً تحليليًا لخطابِ السيد جمال مبارك مراعياً فيه الموضوعيةَ ،والبعدَ عن التهكمِ والسخريةِ ، لكنني لم أستطعْ أنْ أمنعَ نفسي من الضَّحِك وأنا أطالعُ خطابَ سيادتِه ، غيرَ أنَّ النيةَ الصَّادقةَ في التحليل الموضوعي كانتْ لها الغلبةُ في النهايةِ ، وأستطيعُ أن أزعمَ أنَّ الخطابَ كان غير ذي موضوع ،إذْ اتكأ على ردةِ الفعل التي تخلو من الكياسةِ والتي قابلَ بها المسئولونَ المصريونَ ما كاله الكثيرون للنظام المصري من اتهاماتًٍ خطيرةٍ بشأن الحربِ الصهيونيةِ الأخيرةِ على غزةَ ، ومن المعروفِ للكافةِ أنَّ الرؤيةَ السياسيةَ الواضحةَ إذا غابتْ فإنَّ البعضَ يَعْمَدُ إلى الدفاعِ غيرَ المنظمِ عن ممارساتٍ ،هو نفسُه لا يحملُ قناعةً تامةً بها ، وفي حديثه عن الأمن القومي أوضحَ سيادتَه أنَّ الأمنَ القومي كلمةٌ كبيرةٌ ،وكل شخصٍ يستخدمُهَا وفْقَ ما يريدُ وأنَّه يعتقدُ أنَّ نقطةَ البدايةِ في أي أمن قومي هي اتباعُ سياسةٍ وآليات تُمَكِنُ من الحِفاظِ علي الاستقلالِ وحمايةِ الأراضي والحدودِ ، ولكم كنت أودُّ من السيد جمال أنْ يُتْحِفَنا بتعريفٍ جديدٍ للأمن القومي ، حتى نستطيعَ بعد ذلك أنْ نرصدَ كيف يحافظُ نظامُ والدِه عليه ،لَكنَّ الرجلَ خيَّب فيه رجاءنا – كعادته- وقفزَ فوقَ حاجزِ التعريفِ ، إلى السياساتِ والآلياتِ ، وأنا في هذه النقطةِ بالذات ألتمسُ له كلَ العذرِ لكونه رجلَ السياساتِ الأولِ في البلادِ ، وبوصفِه كذلكَ أحد الذينَ لا يتوقفونَ كثيرًا عندَ هذه المسائل الشكليةِ ، لكونهم غارقينَ حتى الآذان في النواحي العمليةِ والتنفيذيةِ ، والحقيقة أنَّ مفهومَ الأمنِ القومي الذي يَدْعُونَا إليه ،هو مفهومٌ من الاتساع بمكان ،إذ أنَّ السياساتِ والآلياتِ هي من الأمورِ الاختلافيةِ التي قلمَا يُتَّفقُ عليها ،مِنْ هذا المنطلق لا نستطيعُ أن نناقشّ السيد جمال مبارك في أمورٍ كاختراق المجالِ الجوي المصري من قبل ِالصهاينةِ ، ولا في مقتل ثمانيةٍ وخمسينَ مصريًا على أيدي الصهاينة منذُ إبرام المعاهدةِ ، ولا كيفَ أصبحَ إطلاقُ ((شاليط)) على رأس الأولوياتِ المصريةِ ، فالأمرُ من وجهةِ نظره- كما فهمنا- يتعلق في المقام الأول بالسياسة والآليات لا بالسيادة واحترام الاتفاقيات . وعندما تحدثَ عن الموقف المصري الذي ادَّعَى البعضُ أنَّه اهتزَّ بشدةٍ بعدَ أحداثِ غزةَ قالَ إنَّ مصرَ لها مصداقيةٌ كبيرةٌ في العالم ، وتحظي بالثقةِ في دول العالم باتساعها ، وأغلب الظَّن أنَّ السيد جمال كانّ يقصدُ دولةَ الكيان الصهيوني التي شكرَ مواطنُوها نظامَ أبيه عبرَ شاشات التلفزة وفي جميع وسائل الإعلام ، وأنا شخصيًا لا أجدُ أدنى ضررٍ في أن يتحدثَ السيد جمال عن مصداقية مصرَ وثقةِ العالم فيها ،فهذا حديثٌ يُسْعدنا جميعًا ، لكن كل الضرر قد يأتي من هذا الخطاب الذي يتسمُ بالثقةِ المفرطةِ والتعميم الذي يخالفُ أبسط أسس الخطاب الإعلامي ، فأنا شخصيًا أعرفُ دولاً وشعوبًا لا يتمتعُ النظامُ المصريُ لديها بأي مصداقيةٍ ،بل وأكاد أجزمُ أنَّ ثقتها في نظام مبارك بلغتْ الصفرَ المئوي بجدارةٍ واستحقاق ، فعن أي عالمٍ يتحدثُ السيد جمال ، كذلك فإنَّ الدورَ المحوري المصري الذي ألمحَ إليه لم يعدْ خافياً على أحدٍ ،فأي دورٍ أكبرُ من إمدادِ الكيان الصهيوني بالبترول والغاز ، وإمدادِ جيشه بالوجباتِ السريعةِ على جبهات القتال حسب ما نشرته إحدى الصحفِ المصريةِ شبه المستقلة ،مع إحكام الحصار على غزةَ وإغلاق معبر رفح أمامَ المساعدات والأطباء وأعضاءِ المنظمات الحقوقية ، وبالمخالفة الصريحة لجميع الأعرافِ والمواثيق الدوليةِ ، كان أولى بالسيد جمال مبارك أنْ يبتعدَ بخطابه عن هذه المناطق الشَّائكةِ ، والتي خسر فيها أكثرَ مما كسبَ بكثير ، لدرجةِ أنَّه عمدَ إلى تخوين من اختلفَ مع نظام والدِه أثناءَ الأزمة ،واتهمهم أنَّهم ساروا في ركاب حملةٍ منظمةٍ هدفها النيلُ من مصرَ ، وأنَّهم ما فعلوا ذلك إلا للحصول على مكاسبَ سياسيةٍ ، على حساب قضايا استراتيجية – على حد زعمه – والحقيقة أنَّ هذه الجملة بالذات هي عينُ الفكاهةِ في الخطاب ، إذْ أنََّها تطلُ علينا وقدْ ارتدتْ أبهى حلل الحكمةِ والرصانةِ اللغويةِ ، وفيها من الإحالةِ إلى عالم الغيب الكثيرَ والكثيرَ ، وقدْ تُسْرعُ بك جملةٌ فارقةٌ كهذه إلى الوصول إلى مراميك في ما تطمحُ في إيصَاله إلى سامعيك ،هذا إذا كنتَ خالصَ العزم ،صادقَ النية والتوجه كالسيد جمال ، هذه الجملةُ جمع فيها الرجلُ كلَ مناوئيه ، وأسكنهم بضربةٍ واحدةٍ في خندق العمالةِ ، والتربح على حساب قضايا الوطن الاستراتيجية ، التي يراها الرجلُ بعين بصيرته التي لا تخطئ ، وأظن أنَّ هذا ما جعله يدللُ في المسألة الإيرانية على اتساع هوة الخلاف بين نظام والده وإيران بقوله ((إنَّ إيران تختلفُ معنا‏,‏ وترددُ ما يردده البعضُ بأنَّه ما كان لمصرَ أن تتوجه نحو السلام وأنَّ هذا كانَ خطأً استراتيجيًا وأنَّه كان علي مصرَ الاستمرارُ‏,‏ وهذا موقفُهم وهو موقفٌ يتناقض مع الموقف المصري تجاهَ العديدِ من القضايا‏ )) وقدْ نختلفُ أو نتفقُ حولَ حقيقةِ الدور الإيراني في المنطقةِ ، وقدْ نختلفُ أيضًا حولَ ما تريده إيران من النِّظام المصري تحديدًا ، لكن ما لا يمكنُ تجاهله في خطاب السيد جمال مبارك ،هو هذا التباينُ الواضحُ في لغةِ الخطاب التي تكتسب طابعًا فريدًا مِنَ التعميم والإجمال حينما تكونُ الحَاجةُ ملحةٌ إلى التفصيل والدقةِ ، بينما تنحو اللغةُ ذاتُها منحى ً شديدَ التطرفِ والاستعلاءِ إذا تَعَلَّقَ الأمرُ بدول بعينها ، وهذا مِمَّا يقدحُ في الخطابِ ذاته ،وفي ما قام عليه من ادعاءِ مخاصمته للتشددِ ،بارتداءِ ثوبٍ بالٍ من العقلانية المدعاة وهو ثوب يفضحُ أكثرَ بكثيرٍ مِمَّا يسترُ .